بقلم عبد الإله محرير
كل محطة نقاش حول أمر من أمور تخص المجتمع، تشكل مقياسا لدرجة تطوره ومدى انسجام خلايا عقله الجمعي، ومن ضمن المواضيع التي أثارت اصطدام العقل بالعاطفة في مجتمعنا، طرحت مؤخرا مسألة تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، ولقيت ردود فعل مختلفة تميزت بالمجاملة والتردد والارتباك وعدم وضوح الأفكار.
قد لا يتفق العقل والصواب مع وزير التربية والتعليم حول عدة أمور متعلقة بالمنظومة التربوية والتعليمية، استراتيجيا، تربويا، لوجيستيكيا وحكامة، لكن مسألة تدريس المواد العلمية بالفرنسية تستحق الاعتبار والتقدير، لأنها تهدف الى دمقرطة التعليم وتعميم امتياز يعتبره الكثير مطلبا أساسيا، تتساوى باعتماده الحظوظ أمام كل شرائح المجتمع، بدل أن يبقى الوضع على حال رغبة الجميع وقدرة البعض.
أكيد أن النقاشات الودية والعائلية المجردة من أي خلفيات، والتي غالبا ما تكون صادقة، وتعبر عن حقيقة عمق المجتمع، تقر بأن التكوين باللغة الفرنسية في المغرب، يضمن حظوظا أوفر في ميدان العمل، وحتى على مستوى البحث والمعرفة والتقدم والحداثة، فهي بكل موضوعية المدخل الأمثل للولوج الى الثقافة الإنسانية الكونية.
ثقافيا، المجتمع المغربي، يكتسب أمازيغيته وعربيته وكذلك فرنسيته، فالفرنسية في المجتمع المغربي باتت تدخل في التراكم الثقافي، باعتبارها إرث تعاقبت أجيال على حفظه والتفاعل معه، بل وحتى الإبداع فيه، وهذا لا يتعارض مع الهوية، ولا يمنع من الانفتاح على لغات أخرى، خصوصا تلك التي بلغت الريادة اقتصاديا وتكنولوجيا في العالم، لكن مسألة الريادة اللغوية تبقى من جهة نسبية، لأن الفرنسية لها مكانتها في العالم وفي كل المجالات، ومن جهة أخرى مرحلية، لأن في المستقبل قد تكون الريادة للغة أخرى.
حين يتعلق الأمر بأمر استراتيجي، يجب التعامل معه برؤية إستراتيجية بعيدا عن الذوات الفردية والجماعية وبدون مجاملة ولا تردد، وبوعي كامل بأن المجتمع يتقدم بتقدم أفراده، واللغة تنمو بتطور الفعل الثقافي لأفراده، لأنها تعكس تعبيراته. مع الأسف، التفاعل مع مثل هذه المواضيع المصيرية في المجتمع يطغى عليه منطق رابح خاسر، أو موجود غير موجود، ويتسم بالعنف اللغوي واللفظي، وبالدهاء وبالمجازفة باستعمال وسائل غير مسؤولة في النقاش تعقم خصوبته، حيث يتم اللجوء إلى ربط عناصر النقاش بالمقدسات، دون العمل على بلورة أفكار مشتركة تخدم مصلحة المجتمع ثقافيا، علميا، وتكنولوجيا، ويتم تصنيف الأشخاص على أساس الأفكار والمواقف، ليصبح الرأي أو الموقف مجازفة، مما يؤدي إلى النفاق الفكري الذي يحجب رؤية الحقيقة، لكن الحقيقة تبقى مفهوما واضحا يكفي رؤيتها بوضوح وبدون لبس، أي بالعقل.
الخيار الذي أتى به الوزير إيجابي ويستحق الإجماع. لكن يجب أن يكون في إطار مقاربة شمولية تعتبر المدرسة العمومية مرجعا ومدخلا أساسيا للتنمية الثقافية والبشرية للمجتمع، وذلك بعقلنة مقررات التعليم الأولي ودمج التربية الفنية والإبداعية والرياضية في البرامج، وتوفير الشروط والإمكانيات لذلك، بشراكة مع قطاعات الثقافة والشباب والرياضة…
ما يجب تفاديه، هو السقوط في النقاشات الخاطئة التي تسير موازية للملموس ولا تلمسه، و الخلط بين مثل هذه المواضيع و الهوية. لأن الهوية لا تحصن إلا بالتقدم والتطور، ومسايرة العالم، وبتأهيلها لتكون مفخرة.