واشنطن: سكوت آندرسون
تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، التحقيق الاستقصائي المطول الذي أعدته مجلة «نيويورك تايمز»، وكتبه سكوت آندرسون، وبعدسة باولو بيليغرين.
يركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عامًا؛ مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي، وبزوغ أزمة اللاجئين العالمية. قدمت المجلة القصة في خمسة أجزاء، هي: «الجذور»، و«حرب العراق»، و«الربيع العربي»، و«صعود (داعش)»، و«الهجرة الجماعية»، من خلال عدد ملحمي يحتوي على أكثر من 40 ألف كلمة، واستغرق إعداده نحو 18 شهرا. يحكي قصة ما وصفته بـ«الكارثة التي كسرت العالم العربي» وكيف تكشفت علاماتها من خلال عيون ستة أشخاص من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق.
قالت المجلة في مقدمة عددها «الاستثنائي» إن «جغرافية الكارثة واسعة وأسبابها متعددة، ونتائجها الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم». وتصاحب قصة آندرسون 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال الـ14 عامًا الماضية، تعطي إحساسا عميقًا بالكارثة. في الحلقة التاسعة اليوم يروي شهود.. من كردستان العراق الذي بات واحة للاستقرار في منطقة تموج بالاضطرابات.
أخبرني عازار ميرخان وهو يقود السيارة عبر الصحراء عن موت والده الجنرال هيسو ميرخان، أحد مقاتلي قوات البيشمركة، الذي كان ممن شاركوا في قيادة الانتفاضة الكردية عام 1974 ضد الحكومة العراقية، والذي اصطحب أسرته حينها إلى المنفى في إيران. وأوضح عازار أنه عندما بدأت الحرب بين إيران والعراق بعد ذلك بست سنوات أدرك نظام الخميني فجأة إمكانية استغلال أكراد المنفى العراقيين، الذين في منتصف العمر، وسمح لهيسو باستعادة دوره القيادي في البيشمركة، وكذا باستكمال هجماته عبر الحدود. وأودى ذلك بحياته في أبريل (نيسان) عام 1983 حيث قُتل في كمين في شمال العراق.
وقال عازار: «لا أستطيع تذكره بدقة، لأني كنت في الثامنة حين وافته المنية. أوضح ذكرى بالنسبة لي هي عن عرض مستمر لقادة قوات البيشمركة وهم يفدون إلى منزلنا، ويتشاورون مع أبي».
ظلت رفات هيسو مفقودة في مكان في جبال كردستان لنحو 30 عامًا، لكن منذ بضعة أعوام بدأ عازار، وأخواته مهمة دامت شهورًا لمعرفة مكانها. من خلال الحديث مع القرويين، ورفاق هيسو الذين لا يزالون على قيد الحياة، عثروا أخيرا على عظامه في نهاية وادٍ ضيق ناءٍ. وقال عازار: «أعدنا الرفات إلى قريتنا، وأقيمت له جنازة بطل حضرها حتى بارزاني (مسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان)».
تجلى شعور الدكتور بالضياع الشخصي كثيرًا حين تحدث عن موت شقيقه علي، ثاني أكبر أشقاء ميرخان الأربعة عشر، وأول من يلحق به في قيادة صفوف البيشمركة. ويروي عازار: «عندما تم قتل علي، كان الأمر مأساويًا ليس فقط بالنسبة إلى الأسرة، بل إلى كل كردستان. لقد كان قائدًا للرجال بالفطرة، فهو ذكي يتمتع بحضور طاغٍ، وحقيقي أنه كان أخي، لكني أعتقد أنه لو ظل حيًا لكنّا الآن في وضع مختلف. لقد أخبرني الكثيرون ممن عرفوه بالرأي نفسه».
روى لي عازار هذه القصص أثناء القيادة كما ذكرنا في المقدمة، ربما ليشرح لي لماذا لا تزال وجهتنا، وهي قرية صغيرة في العراق تسمى جوندي سيبة، تسيطر على تفكيره. لقد كان في إجازة مفتوحة من المستشفى حيث كان يعمل في أربيل، عاصمة إقليم كردستان، لتكريس كل جهوده في مواجهة الأزمة التي تسبب فيها غزو «داعش». تضمنت واجباته، التي بدت بدافع ذاتي إلى حد كبير، القيام بجولات دورية على المواجهة الأمامية لقوات البيشمركة، وإسداء النصح لقادتها. وكان اسم ميرخان معروفًا لكل من في إقليم كردستان على ما يبدو، وكان من النتائج الإيجابية لهذا الأمر هو معاملة من يحمل هذا الاسم باحترام، وإجلال على الفور.
ونحن نتحدث بات واضحًا أن مهمة عازر التي تصدى لها تجاوزت حدود مواجهة تهديد «داعش»، فقد رأى في الوضع الحالي لإقليم كردستان فرصة ثمينة، وغير مسبوقة، لإقامة دولة كردية حقيقية. ولا يعني تحقيق ذلك هزيمة متعصبي «داعش» فحسب، بل أيضًا التخلص من أعداء الأكراد التاريخيين، وهم العرب، إلى الأبد. وقال: «لقد ظلوا يقسمون طوال 1400 عام بتدميرنا، فمتى نعتد بكلامهم؟» قد آن أوان ذلك بالنسبة إلى عازار؛ فمن وجهة نظره، وهي وجهة نظر واحد من الأقلية في إقليم كردستان، المهمة الأولى الأساسية هي محو الآثار الباقية للدولة العراقية، ثم تدمير أسطورة التكامل العربي – الكردي التي بدأها صدام حسين. والجدير بالذكر أن عازار يفخر بكونه لا يجيد اللغة العربية، ولم يذهب إلى بغداد إلا مرة واحدة فقط.
ينبع جزء من تشدد، وصرامة الدكتور، مما يراه خنوعًا كرديًا في وجه المخاطر المحيطة بهم من كل جانب، والتي باتت المأساة، التي شهدها في جوندي سيبة، في 3 أغسطس (آب) 2014 وقودًا لها فيما بعد. ظل إقليم كردستان إلى حد كبير واحة من الاستقرار والسلام في المنطقة لمدة 22 عامًا منذ إقامته عام 1992، وكان علاقته ببغداد نظرية إلى حد كبير. وتجلت هذه الحالة الاستثنائية خلال الغزو الأميركي للعراق، الذي اتخذ فيه الإقليم موقفًا مناصرًا للغزاة بوضوح، حيث أمدوهم بالدعم من الوراء، وبالمجالات الجوية اللازمة للقتال. وكما يحلو لمسؤولين محليين التوضيح، لم يتم قتل جندي واحد من التحالف في إقليم كردستان أثناء الغزو العراقي. واستمر هذا الهدوء في وقت كان يشهد فيه العراق تفككًا مستمرًا بعد الانسحاب الأميركي، حيث ازداد تردد إقليم كردستان حتى في إظهار الاحترام المزيف للتبعية لبغداد. بالنسبة إلى المواطنين الصالحين في إقليم كردستان، بات من الأوضح أن أرضهم الجبلية المنيعة قد عرفت طريق الهروب من الاضطرابات العظيمة المحيطة بهم، وأن أيام العائلات المحارية مثل عائلة ميرخان على وشك أن تكون ذكرى من ذكريات التراث الشعبي، لكن انتهت هذه الفكرة الخيالية بتقدم «داعش» الصاعق باتجاه وسط العراق في يونيو (حزيران) 2014.
وأوضح عازار قائلا: «لم أثق يومًا في العرب، لكني وثقت في (داعش) مع ما في ذلك من غرابة». وأضاف قائلا: «في الماضي دائمًا ما كان العرب يكذبون، ويقولون إنه لا يوجد ما يدعو الأكراد إلى الخوف منهم، ثم يهاجموننا. على الجانب الآخر، كان تنظيم داعش واضحًا جدًا فيما يخطط له. لقد أرادوا الاستيلاء على هذا الجزء من العالم، وإعادته إلى زمن الخلافة. لقد أرادوا القضاء على كل من لا ينتمي إليهم، من مسيحيين، وأكراد، وشيعة، وكانوا في منتهى الصراحة. بعد هجومهم في يونيو، لم يساورني أي شك في أنهم قادمون إلينا». وحدد الدكتور المناطق التي سيستهدفونها أولا. وأوضح قائلا: «أي أحمق ينظر إلى خريطة يستطيع أن يدرك أن الإيزيديين، وسنجار هم المستهدفون».
الإيزيديون أقلية دينية كردية لطالما نعتهم تنظيم داعش بـ«عبدة الشيطان»، وتعهد بالقضاء عليهم. وتقع أرضهم في قلب جبل سنجار، أقصى الشمال الغربي من العراق، على أطراف حدود إقليم كردستان الرسمية وهو ما يجعلهم معرضين بوجه خاص للخطر. الأكثر من ذلك، فيما يتعلق باستيلاء «داعش» على الموصل في يونيو، وهو ما تكفي نظرة واحدة على أي خريطة لاكتشافه، أن الأرض الواصلة بين إقليم كردستان، والأكراد الإيزيديين في سنجار أصبحت طريقًا زراعيًا واحدًا كثير الأخاديد.
خلال الأيام والأسابيع التالية لهجوم يونيو، استغل عازار اسم عائلته لفرض لقاءات داخل دائرته من الرفاق المدنيين، والعسكريين. وفي كل لقاء، كان يحذر من هجوم «داعش» القادم. وقال: «لم يأخذ أحد كلامي مأخذ الجد، وقالوا جميعًا إن معركتهم مع الشيعة في بغداد، فلماذا يأتون إلى هنا؟».
في 1 أغسطس 2014، هاجم مقاتلو «داعش» موقعًا نائيًا من مواقع البيشمركة في بلدة زومار، التي تقع على نحو 10 أميال من آخر طريق نحو سنجار. وفي وقت لم يظهر فيه أي مؤشر يدل على تحرك الحكومة، جمّع عازار خمسة، أو ستة أصدقاء من البيشمركة، بدافع من اليأس، واتجهوا نحو الغرب. وقال: «ووصلنا إلى هنا».
كنا نقف على جانب الطريق في جوندي سيبة، على بعد بضعة أميال غرب نهر دجلة، ولا يزال يفصلنا مسافة 40 ميلاً تقريبًا عن بلدة سنجار. وقال: «كان الليل قد حلّ وقتها، وبدأنا هنا نلتقي بقوات البيشمركة الفارين من سنجار، ووراءهم لاجئون من الإيزيديين. كان الاستمرار مستحيلا لازدحام الطريق، حيث كان الجميع يحاول الهروب. أنشأنا موقع دفاع هنا، وحشدنا بعضًا من قوات البيشمركة ليظلوا معنا، لكن كان هذا هو جلّ ما استطعنا فعله». وأضاف وهو يشعل سيجارة، وينفث دخانها في الهواء: «لقد جئنا متأخرين يومًا».
في ذلك اليوم الموافق 3 أغسطس في سنجار كان تنظيم داعش قد بدأ تنفيذ عمليات إعدام جماعي، وذبح راح ضحيتها 5 آلاف من الإيزيديين على الأقل. لقد كانوا يأسرون آلاف الفتيات، والنساء ويتعاملون معهن كالإماء. وكان عشرات الآلاف من الإيزيديين يتسلقون تخوم جبل سنجار في محاولة للهروب من القتلة. من بين كل هذا، لم يكن عازار ميرخان يلمح، ويشير سوى إلى الوجوه التي سكنها الرعب، وإلى روايات أليمة للناجين الوافدين إلى جوندي سيبة.
مع ذلك لم يكن لدى عازار وقت لفهم المأساة التي تحدث في سنجار، ناهيك بالتعامل معها. بعد ذلك بيومين، بدأ «داعش» شنّ هجوم ثانٍ استهدف أربيل، عاصمة إقليم كردستان مباشرة. لذا بعد عودته من جوندي سيبة، سرعان ما توجه إلى الجنوب من أجل المعركة.
وفي ذلك الوقت كان شقيق عازار الأكبر، أراز، (44 عامًا)، نائب قائد قوات البيشمركة يقف على طول جزء من جبهة في إقليم كردستان، وهو القطاع 6، الذي كان له النصيب الأكبر من هجوم «داعش» الجديد. وسارع عازار بالمشاركة في المعركة إلى جانب شقيقه، لكنه لم يكن أراز فقط، فقد سافر أكثر إخوة عازار الآخرين إلى الخارج في الشتات الكردي، وأصبحوا أطباء، ومهندسين في الولايات المتحدة، وأوروبا، لكن لأنهم جديرون بسمعة عائلة ميرخان المحاربة، ترك الكثير منهم أعمالهم، وانطلقوا إلى إقليم كردستان، وحملوا السلاح. خلال ذلك الصيف، كان خمسة من أشقاء ميرخان، مع أحد أبناء شقيق أزار، يحاربون كتفًا إلى كتف على خط النار في القطاع 6.
وقال أزار في سياق الدعابة: «كان عدم إلقاء (داعش) قذيفة علينا حينها أمرًا جيدًا، كان ذلك ليصيب أمي بالانزعاج، والضيق».
مع ذلك حدث أمر ما في المعركة أدى إلى تغير عازار. بعد تقدم «داعش» لمسافة 15 ميلاً من أربيل، توقف التقدم، وتم صدّه بفضل هجوم مضاد من قوات البيشمركة. أثناء الهجوم المضاد في 20 أغسطس، مزقت رصاصة من قناص في «داعش» اليد اليمنى لعازار، وظل لأسابيع طويلة بعدها قلقًا من فقدان يده تمامًا، لكن بفضل إجراء عملية جراحية، والقيام بعلاج طبيعي، عادت يده إلى طبيعتها. وقال عازار: «الأمر المهم هو أنني أستطيع التصويب بالبندقية ثانية»، وأضاف وهو يلوي أصابعه برفق: «ليس بشكل جيد كما كنت في الماضي، لكن بقدر لا بأس به».
بعد رحلتنا إلى جوندي سيبة في مايو (أيار) 2015، اصطحبني عازار ميرخان إلى جبهة كوير – مخمور، المكان الذي أصيب فيه بنيران قناص «داعش». وبينما يتجول في قاعدة قوات البيشمركة على خطوط المواجهة، تسلق الحاجز لوضع منظار الميدان المكبر، وتوجيهه نحو قرية، قد تبعد 700 أو 800 ياردة أسفل التل. كان السكون يعمّ المكان، باستثناء وجود علمين من أعلام «داعش» المميزة ذات اللونين الأبيض والأسود يتماوجان مع النسيم الهادئ.
أطلق جندي تحذيرًا برصد قناص تابع لـ«داعش» في القرية قبل ساعة، وكان عازار هدفًا سهلاً بسبب موقعه حينها. حدج الدكتور الرجل بنظرة غاضبة، ثم عاد إلى منظاره. كانت القاعدة تتكون من مجموعة من الحواف الناتئة، والمخابئ، التي تم إنشاؤها على عجل على خط من المرتفعات يبعد نحو ثلاثة أميال عن نهر دجلة، بينما يسيطر تنظيم داعش على الأراضي المنخفضة. خلال الوقت الذي قضيته هنا، شهد عازار عدة هجمات لـ«داعش»، ونجا منها.
«في البداية أرسلوا انتحاريين في عربات دفع رباعي عسكرية مصفحة. إذا لم تدمرهم أثناء صعودهم للتل، مع العلم بضرورة أن تكون الضربة مباشرة، سوف يفجرون فتحات ضخمة في الجدران فهي ليست سوى انفجارات هائلة. وفي ظل ذلك الاضطراب والارتباك، يرسلون أفراد المشاة، ووراءهم القناصة. ويحدث كل هذا سريعًا، وبهدوء، ثم فجأة تجدهم منتشرين في كل مكان. أهم شيء هو أن تبقى هادئًا، لتحديد الأهداف، لأنك إذا شعرت بالذعر، فسيكون مقضيًا عليك لا محالة. هذه هي مشكلة الجيش العراقي، وهي أنهم دائمًا ما يذعرون».
لم يبد الذعر من المشاعر الظاهرة الجلية في نفس عازار، حيث قال: «أحب مقاتلة (داعش). إنهم أذكياء إلى حد ما. الأمر أشبه باللعبة».
ربما لا يكون هذا مفاجئًا من أناس ملتزمين بشدة بفكرة إقامة وطن، حيث لا يقبل أكراد كردستان بأي حال من الأحوال أن يسيطر تنظيم داعش على أي جزء من أراضيهم. ومثلما كان الجيش الأميركي يحرص على الإصابات من أجل استرداد ساحة المعركة مثل جثة، كذلك كانت قوات البيشمركة عازمة على تقبل خسائر أكبر لاسترداد الأراضي الكردية على نحو أسرع.
في معسكر «النمر الأسود»، مركز قيادة القطاع 6 في القاعدة الخلفية، كان سيروان بارزاني، القائد العام للقطاع، يستطيع الإشارة إلى خريطة جبهة القتال الهائلة المشفرة بالألوان والمعلقة على حائط مكتبه، ويتلو إحصاءات دقيقة بشكل ملحوظ. وقال: «عندما وصلت إلى هنا للمرة الأولى، كان تنظيم داعش على بعد 3 كيلومترات فقط، أما الآن فقد أبعدناهم بمسافة 23 كيلومتر باتجاه الغرب، و34 كيلومتر باتجاه الجنوب. في قطاعي، استعدنا 1.100 كيلومتر مربع، لكن لا يزال أمامنا 214 كيلومتر يجب استرجاعهم».
وأوضح بارزاني أنه بحلول مايو 2015، كان 120 من أفراد البيشمركة تقريبًا قد لقوا حتفهم في القطاع 6، الذي شهد القدر الأكبر من توغلات «داعش». في الوقت ذاته، ميز قادة البيشمركة بين المناطق التي هم على استعداد للتضحية بخسائر كبيرة من أجل استعادتها، وغيرها من المناطق. على سبيل المثال، القرية التي يسيطر عليها التنظيم حاليًا، والتي كان يراقبها عازار بمنظاره، أغلب سكانها من العرب، لا الأكراد. أوضح قائلا: «رغم أنها على أراضٍ كردستانية، لا تستحق أن أخسر رجالاً من أجل استعادتها. على الأقل ليس قبل الاستعداد للقيام بهجوم أكبر».
على أي حال يرتبط موعد تنفيذ ذلك الهجوم بالسياسة الجغرافية، وما ينتج من قرارات في واشنطن، وبروكسل، وبغداد.
في ضوء الأداء البائس المؤسف للجيش العراقي في الماضي، وفي ظل عدم وجود أي رغبة في نشر أي عدد من القوات الغربية على الأرض، دعا الكثير من السياسيين الأميركيين، والأوروبيين، ومستشاري السياسة الخارجية، إلى الاستعانة بالقوة المقاتلة الوحيدة في المنطقة، التي أثبتت حماستها، وهمتها، وقدرتها، وهي قوات البيشمركة، لقيادة الحملة الرامية إلى القضاء على «داعش». ولم يكن من الواضح ما إذا كان قد تمت مناقشة هذه الفكرة مع الأكراد بشكل جاد أم لا.
وقال سيروان بارزاني: «كما تعلم، يأتي الأميركيون إلى هنا، ويريدون الحديث عن استعادة الموصل. هل سيفعلون ذلك بقوات أميركية؟ لا. هل سيفعلون ذلك مع القوات العراقية؟ لا لأنهم بلا فائدة أو نفع. لذا فلنجعل الأكراد يقومون بذلك. لكن ماذا نريد من الموصل؟ إنها ليست كردستان، إنها العراق، فلماذا نخسر المزيد من الرجال من أجل العراق؟».
تحفيز هذه المقاومة، التي تتجاوز حدود الكراهية التقليدية الكردية للنظام في بغداد، هو ما تركه انهيار الجيش العراقي في 2014 من أثر على إقليم كردستان. قد تسبب العراقيون، بتخليهم عن أسلحتهم الثقيلة، والعربات المقدمة من أميركا، لتقع في أيدي «داعش»، ففي أكثر الأحوال لم يخطر ببالهم تدميرها، في تحويل قوة غير نظامية إلى واحد من أفضل الجيوش تسلحًا في المنطقة، وكان الأكراد هم من دفعوا ثمن ذلك.
بحلول مايو 2015، كان الأميركيون لا يزالوا يحاولون التوصل إلى ترتيب عملي فعّال. وتحسن توقيت الرد على الهجمات الجوية ضد أهداف «داعش» بفضل نشر فرق رصد جوي أميركية في إقليم كردستان، لكن على الجانب الآخر، كانت تسير محاولات التوصل إلى نوع من التقارب بن البيشمركة، والجيش العراقي بخطى أبطأ كثيرًا. بجانب معسكر «النمر الأسود» مباشرة في جوير كانت هناك قاعدة أصغر يتلقى فيها جنود من الجيش العراقي تدريبًا أميركيًا. وقال بارزاني، وهو يشير إلى العلم العراقي الذي يرفرف على القاعدة القريبة: «أدعو بأن أشهد اليوم الذي لا أضطر فيه إلى رؤية ذلك».
مع ذلك كشف معسكر «النمر الأسود» عن أمر آخر يتعلق بإقليم كردستان، وهو جانب من المجتمع يحاول أكثر المسؤولين فيه، سواء كانوا من المدنيين، أو العسكريين، التقليل من شأنه أو تجنب الحديث عنه كليًا. طوال فترة وجود كردستان، وبالتأكيد قبل وجوده بفترة طويلة، يتمزق الإقليم بين معسكرين متصارعين، وهو صدع أدى إلى حرب أهلية في التسعينات. على السطح بدا الأمر مزخرفًا، ومغطى بصورة منافسة سياسية بين الحزبين الرئيسين، وهما الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، لكن في واقع الأمر، وجوهره، هناك منافسة بين عشيرتين كبيرتين هما عشيرة البارزاني، وعشيرة الطالباني. ويسيطر أفراد عشيرة البارزاني وحلفاؤهم، ومنهم عائلة ميرخان – فكلهم ينتمون إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني – على الأرض الواقعة شمال البلاد. أما الأرض الواقعة في الجنوب، فتسيطر عليها عشيرة الطالباني، وحلفاؤهم من العشائر الأخرى تحت لواء حزب الاتحاد الكردستاني.
وكانت الطبيعة التنازعية العدائية لهذا الوضع جلية في معسكر «النمر الأسود». كل أفراد البيشمركة في المعسكر، وعلى طول جبهة القطاع 6، التي تمتد على 75 ميلاً، من عشيرة بارزان، كما تشير الأوشحة القبلية ذات اللونين الأبيض، والأحمر. في القطاعات الجنوبية من إقليم كردستان الخاصة بطالباني، تتكون ألوان أوشحة البيشمركة من اللونين الأبيض، والأسود.
كذلك لم يحظ سيروان بارزاني بـ«قيادة» القطاع 6 بفضل ألمعيته، وذكائه العسكري، فقبل الحرب كان صاحب شركة خدمات هواتف محمولة شديد الثراء، بل حظي بالمنصب لأنه ابن شقيق مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان، وهو ابن مصطفى برزاني، أحد أمراء الحروب الأكراد الأسطوريين. ويفسر هذا أيضًا صراحة سيروان الحمقاء مع صحافي أجنبي، فبوصفه تابعًا لبارزان، لا يستطيع أن يكمم فيه سياسيي حزب الاتحاد الكردستاني، الأكثر اعتدالا، لكن الأقل ذكرًا.
وكان لهذا الانقسام المتواصل عواقب مأساوية؛ فخلال الخمسة أيام الأولى من تقدم «داعش» باتجاه إقليم كردستان، كان أداء البيشمركة مهتزًا، وفي الوقت الذي أرادوا فيه تبرير ذلك بانهيار الجيش العراقي، كان العامل الأكبر والأهم انقسام قوات البيشمركة، وعدم وجود قدر كافٍ من التنسيق بين القسمين. استغل تنظيم داعش ذلك الأمر حتى أنه كان قد أوشك على الاستيلاء على عاصمة الإقليم، وبدأ حملة إبادة ضد الإيزيديين.
مرة أخرى، أرصد شعورًا بالذنب بل والخزي في إقليم كردستان عندما اتجهت دفة الحديث نحو مصير الإيزيديين. وكان هذا الشعور أقوى ما يكون لدى عازار ميرخان. ربما نبع هذا من محاولته مساعدتهم في تلك اللحظة الحرجة قبل أن يكتشف أن تلك اللحظة قد مرت. كذلك على المستوى الفلسفي، شعر أن الأكراد قد خانوا تاريخهم. وأوضح قائلا: «يمكنك القول من عدة أوجه أن الإيزيديين أكراد أنقياء، فدينهم هو الدين الذي آمن به كل الأكراد يومًا ما، وهو لا علاقة له بالسنة أو الشيعة. كل من عداهم تغير، بينما هم ظلوا مؤمنين مخلصين للعقيدة».
أثناء جولته على خطوط المواجهة الأمامية، قضى عازار وقتا طويلا في مخيمات النازحين الإيزيديين في شمال إقليم كردستان، وكان كثيرًا ما يعمل مع طبيبة سويدية من أصل كردي تدعى نيمام جعفوري. باتت هذه المخيمات، التي تدير بعضها جمعيات خيرية مستقلة صغيرة، في حين تدير بعضها الآخر منظمات إغاثة دولية كبيرة، محل إقامة عشرات الآلاف من الإيزيديين، الذين هربوا من تقدم «داعش» في أغسطس 2014، «لكن وقت زيارتي في مايو 2015، كان قد انضم إليهم آخرون إما تمكنوا من الهرب، أو تم دفع فديتهم ليطلق (داعش) سراحهم. رغم إجرائي مقابلات مع عدد لا يحصى من الناجين من الحروب، والفظائع حول العالم على مدى سنوات طويلة، رأيت شيئا مروعا بشكل متميز في قصص هؤلاء العائدين. استغرقت أحيانًا بعض الوقت لأدرك أن ذلك بسبب ما تم السكوت عنه، والحاجة إلى اكتشاف الأفعال الحقيرة الدنيئة التي تعرضوا لها».
استخدم تنظيم داعش الاغتصاب، وتجارة الإماء كسلاح في الحرب لتدمير نسيج المجتمع الإيزيدي، والآن بعد عودة بعض أولئك الفتيات والنساء، لم تسمح أعراف الشرف في مجتمع الإيزيديين المحافظ لهم بالحديث عما حدث لهم. في صحبة الجعفوري، التقيت بفتاة تبلغ من العمر 10 سنوات تمكنت عائلتها من جمع 1500 دولار، هي كل مدخراتهم، لشراء حريتها منذ أسبوع. وقالت إن أفراد «داعش» كانوا يجعلونها تنظف، وتغسل ثيابهم فقط، ولم يمسوها قط، وكانت هذه هي القصة التي كانت الأسرة عازمة على تصديقها. والتقيت بفتاتين مراهقتين تمكنتا من الفرار من «داعش» بعد شهر، مع أحد الأقرباء الذي أظن أنها والدتهم، التي بقيت في الأسر لمدة ثمانية أشهر؛ وهي امرأة تبدو في الخامسة والأربعين من العمر، لكن خمسة وأربعين عامًا من الشقاء، وتبّدى ذلك في خديها الغائرين، وأسنانها المفقودة، وشعرها الرمادي. مع ذلك لم تكن هذه المرأة والدتهم، بل كانت شقيقتهم الكبرى، وكانت في الرابعة والعشرين من العمر. بحسب روايتها، ادعت الصمم، وهو أمر رآه أفراد «داعش» علامة دالة على المرض العقلي، وبهذه الطريقة تجنبت التعرض للأذى. كما أوضحت الجعفوري، كانت مهمتها هي التوصل إلى ذريعة لرؤية الفتاة ذات العشرة أعوام، والمرأة ذات الـ24 عامًا وحديهما. بعد ما كسبت ثقتهم، سوف تجري كشفًا طبيًا عليهما. إذا اكتشفت أنه تم اغتصابهما بالفعل، سوف تخبر عائلتيهما بأنهما مصابتين بعدوى، وبحاجة إلى النقل إلى مستشفى مع منع الزيارة لمدة أسبوع.
وأوضحت: «ويتم إرسالهم إلى أربيل، حيث يتم إجراء عملية لاستعادة غشاء البكارة، وهي بسيطة، لتعودا عذراوتين مرة أخرى، وبالتالي يتم قبولهما ويتمكنا من الزواج. بطبيعة الحال يعني ذلك أنهما لن تستطيعا الحديث عما حدث أبدًا، ويجب عليهما الاحتفاظ بذلك الأمر داخل نفسيهما إلى الأبد. وتعد هذه هي النهاية السعيدة حتى هذه اللحظة».
زاد سماع تلك الشهادات من قوة اعتقاد عازار ميرخان فيما يجب القيام به حتى يجد الأكراد الأمان. يرى عازار أن «داعش» ليس سوى الحلقة الأحدث في سلسلة طويلة من الأعداء العرب الحاقدين. وأضاف قائلا: «لو كانت هذه هي المرة الأولى لكنت استطعت أن تقول إنهم ليسوا سوى مجموعة بشعة من الإرهابيين، لكن هذا هو ما يحدث طوال التاريخ. أعدك أننا عندما نستعيد سنجار، سوف نذهب إلى هناك ونجد أن العرب قد ظلوا مع (داعش)». واستطرد قائلا: «حسنًا، هناك عرب هنا في المخيمات، لكن الجزء الأكبر ظل هناك، ولم يغادر. لهذا السبب أقول إن عدونا ليس تنظيم داعش فحسب، بل كل العرب».
المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»