كبيطال بريس :
بناء على خلاصات اللقاء الدراسي الذي نظمته العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان بمقرها بتاريخ 12 فبراير 2021، حول مسألة حرية التعبير عن الآراء بالمغرب بين مقتضيات قانون الصحافة والقانون الجنائي، بمشاركة فعاليات من مشارب متعددة، حيث تمت مقاربة الموضوع من زوايا مختلفة، تعلي من قيمة الحرية المرتبطة بالمسؤولية، كما تقضي بذلك المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
وبعد استقراء آراء الفاعلين الأساسيين، سواء منهم من حضر اللقاء، أو من عبر عن رأيه عبر وسائل ووسائط أخرى، فإن المكتب المركزي للعصبة، آثر أن يقدم هذه المذكرة الترافعية من أجل المساهمة في وضع حد لإشكالية ازدواجية التجريم في مجال حرية التعبير عن الآراء.
فقد خطت بلادنا أشواطا هامة في سبيل الإقرار الفعلي بالحقوق والحريات الأساسية للمواطنات والمواطنين، سواء على مستوى النص القانوني، أو على مستوى التطبيق الفعلي، وذلك من خلال التنصيص الدستوري الصريح على التزام المملكة المغربية بما تقتضيه مواثيق المنظمات الدولية من مبادئ وحقوق وواجبات، وتشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا، والتزامها بحماية منظومة هذه الحقوق مع مراعاة الطابع الكوني لها وعدم قابليتها للتجزيء، مع ما يترتب عن ذلك من جعل للاتفاقيات الدولية كما صادق عليها المغرب في نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو فور نشرها على التشريعات الوطنية والعمل على ملاءمة هذه التشريعات مع ما تتطلبه تلك المصادقة.
إن بلادنا التي اختارت أن تبوئ الحريات والحقوق الأساسية، المكانة الدستورية اللائقة بها من خلال تخصيص الباب الثاني من الوثيقة الدستورية، والتنصيص على عدم إمكان تناولها بالمراجعة، والالتزام أمام جميع هياكل المنتظم الدولي بحماية منظومة حقوق الإنسان والنهوض بثقافتها، قد وضعت بالموازاة مع ذلك آليات لضمان تحويل هذا الالتزام من مجرد إعلان للنوايا إلى حقيقة فعلية عبر إسناد الاختصاص للتشريع في ميدان الحقوق والحريات الأساسية، حصرا إلى السلطة التشريعية، وجعل سلطة القضاء حارسا طبيعيا لهذه الحقوق من خلال إصدار أحكام قضائية على أساس التطبيق العادل للقانون.
ومما لاشك فيه، أن حجر الزاوية لكل مجتمع تسوده الحرية والديمقراطية تتمثل أساسا في حريتي الرأي والتعبير، طالما أن حرية التعبير تتيح الأداة لتبادل الآراء وتطويرها، وطالما أنها تشكل شرطا ضروريا لإرساء مبادئ الشفافية والمساءلة التي تمثل بدورها عاملا أساسيا لتعزيز حقوق الإنسان وحمايتها، وهو ما أكدته الوثيقة الدستورية في فصليها الخامس والعشرين، والثامن والعشرين، تأكيدا لما جاء في المادة التاسعة عشر من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
إن الإيمان بحرية التعبير عن الآراء، لا ينفي قيام مسؤوليات وواجبات خاصة ترتبط بممارسة هذه الحرية، وهو ما يتيح للسلطة التشريعية وضع القيود اللازمة عليها من أجل احترام حقوق أو سمعة الآخرين من جهة، ومن اجل حماية الأمن أو النظام العام أو الصحة العامة أو الأخلاق من جهة أخرى، كما يتيح للسلطة القضائية صلاحية مباشرة وإقامة الدعاوى العمومية كلما اقتضى الأمر وذلك وصلاحية تلقي التظلمات والشكايات والبحث فيها، كل ذلك وفق الإجراءات والضوابط التي يحددها القانون.
ولما كان تنظيم وتأطير مجال حرية التعبير وفق المنطق الذي تحدده المادتين 19 و20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، يرتبط وجوبا بمجال القانون، فلابد من التنويه أن التشريع المغربي قد عرف تراكمات متعددة في هذا المجال سواء من خلال مجموعة القانون الجنائي لسنة 1962، والتعديلات التي لحقتها، أو من خلال قانون الصحافة والنشر لسنة 2016، والذي نسخ في مقتضياته الختامية ظهير الصحافة والنشر لسنة 1958، أو غيره من النصوص المتعلقة بهذا المجال والتي تندرج في خانة ما يسميه فقهاء القانون المغربي بالنظام الجنائي للإعلام.
غير أنه يجب الانتباه، أن السياق الوطني لما بعد اعتماد دستور 2011، أضحى يختلف بشكل كبير عن سابقه، حيث عبرت المملكة المغربية في أكثر من مناسبة خلال تقديم تقاريرها إلى الهيئات التعاهدية أو بمناسبة الاستعراض الدوري الشامل، عن عزمها إلغاء العقوبات السالبة للحرية في مجال الصحافة والنشر، بالإضافة إلى الازدواجية التشريعية التي أضحى يواجهها الفاعلون في مجال إنفاذ القانون بين كل من القانون الجنائي والقانون المتعلق بالصحافة والنشر، حيث أن معظم الجرائم المنصوص عليها في مجموعة القانون الجنائي تجد لها صدى في القانون المتعلق بالصحافة والنشر، مع اختلاف في العقوبات، حيث أضحى الفاعلون في المجال الحقوقي يتساءلون عن جدوى إقرار القانون المتعلق بالصحافة والنشر في مقابل استمرار العمل بنصوص القانون الجنائي المتعلقة أيضا بالنشر.
أولا: بيان أسباب ودواعي الترافع
تابعت العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان مثل العديد من المنظمات والهيئات الحقوقية الوطنية والدولية، سلسلة من الاعتقالات التي استهدفت صحفيين أو نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي القاسم المشترك بينها هو اتهامهم بارتكاب جرائم ترتبط بالنشر، والاستناد من أجل متابعتهم إلى مقتضيات مجموعة القانون الجنائي، أومقتضيات قانون المسطرة الجنائية أو نصوص أخرى أكثر تشديدا، بدل مواد قانون الصحافة والنشر، على الرغم من التنصيص على التهم الموجهة إليهم في كلا القانونين بعقوبات مختلفة.
وذلك على الرغم من أن مواد قانون الصحافة والنشر، ولاسيما المادة 72 منه، تحدد وسائل العلانية التي تسري عليها المقتضيات الزجرية الواردة في هذا القانون، في &كل وسائل النشر بما في ذلك الخطب والصياح، والتهديدات المفوه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية، والمكتوبات والمطبوعات المبيعة أو الموزعة أو المعروضة للبيع في الأماكن أو الاجتماعات العمومية، والملصقات المعروضة على أنظار العموم ومختلف وسائل الإعلام السمعية البصرية أو الإلكترونية، وأية وسيلة أخرى تستعمل لهذا الغرض دعامة الكترونية&، ولا تحصرها في المواد الصحفية المنشورة على الجرائد والمجلات والمطبوعات الدورية.
حيث يمكن من خلال هذا الجدول، تقديم بعض الأمثلة للنصوص التي تجرم نفس الأفعال في كل من مجموعة القانون الجنائي، وقانون الصحافة والنشر، والتي تشترك في شق التجريم، وتختلف في شق العقاب:
إن الجرائم المقدمة في الجدول أعلاه، والتي تشكل بعضا من نماذج الجرائم التي تخضع لتجريم مزودج، يفتح مجالا واسعا للتأويل، خارج نطاق الشرعية الجنائية التي تعتبر الضامن الأساسي للحقوق والحريات في ما يرتبط بالمادة الجنائية، سواء تعلق الأمر بمجموعة القانون الجنائي، أو بالنصوص الجنائية الخاصة، والتي من بينها قانون الصحافة والنشر، أضحت تشكل على المستوى العملي، ضربا لإحدى القواعد الأساسية للمحاكمة العادلة والمتمثل في الحق في المساواة أمام المحاكم والهيئات القضائية والذي يفترض أن يطبق نفس القانون على جميع الأشخاص المتواجدين داخل تراب الدولة والخاضعين لولايتها القضائية.
كما أن استمرار وضعية ازدواجية التجريم، في القضايا المتصلة بحرية التعبير عن الآراء، وبالإضافة إلى تأثيره المباشر لى مؤشري الأمن القانوني والقضائي، من خلال توسيع هامش سلطة الملاءمة الممنوحة لمؤسسة النيابة العامة، والسلطة التقديرية للقضاء الجالس، انتهاكا لقاعدة قانونية صريحة تتمثل في إعمال القانون الأصلح للمتهم، في حالة تنازع القوانين الجنائية، وهو الأمر الذي نص عليه بشكل صريح الفصل السادس من مجموعة القانون الجنائي المغربي.
إن أحد الدوافع الأساسية لتقديم هذه المذكرة الترافعية، يتمثل في مواجهة الرغبة التي صارت تعبر عنها جهات متعددة، من أجل التطبيع مع الممارسة القضائية الرامية إلى تجميد العمل بقانون الصحافة والنشر، في مقابل ترسيم العمل بمقتضيات القانون الجنائي،وتعميم هاجس الخوف من التعبير، من خلال تعميم الردع بهدف تجفيف منابع النضال، وخلق جو من الإجماع المزيف المتمثل في الصمت المطبق لكل القوى الحية، وهو الأمر الذي سبق أن حاولته الحكومة من خلال مشروع القانون رقم 71.17 القاضي بتميم القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، والذي تدارسه مجلس الحكومة في اجتماعه المؤرخ في 21 دجنبر 2017، وصادق عليه متضمنا في مذكرة تقديمه عبارات دخيلة على الممارسة التشريعية ببلادنا، من قبيل عبارة &..بهدف التصدي لمرتكبيها الذين أصبحوا يتسترون وراء غطاء ممارسة بعض الحريات المكفولة دستوريا وقانونيا من قبيل حرية التعبير والرأي للوصول إلى غايات غير مشروعة..&.
إن يقظة القوى الحية ببلادنا، لاسيما الهيئات التمثيلية للجسم الصحفي، من خلال النقابة الوطنية للصحافة، ومؤسسة البرلمان من خلال بعض ممثلي الأمة، حالت دون تمرير هذا المشروع وتوقيفه داخل لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب، غير أن الواقع الذي تشهده الحرية ببلادنا اليوم، والمتمثل في تراجع منسوبها وارتفاع مؤشرات النكوص الحقوقي من خلال تزايد المتابعات القضائية في حق المعبرين عن آرائهم في الفضاء العمومي، بالاستناد إلى مقتضيات القانون الجنائي، في اجماع غريب لمختلف محاكم المملكة على تبني اجتهاد متعسف لتأويل النصوص القانونية، يجعل من الصعب الاطمئنان إلى مستقبل حرية التعبير في بلادنا.
ثانيا: اقتراحات عملية للتفعيل
إن العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان، وهي تقدم مرافعتها من أجل إقرار فعلي لحرية التعبير عن الآراء، ورفع العقوبات السالبة للحرية، بما يتماشى والمبادئ المعلنة من خلال المواثيق الدولية وتوصيات الآليات التعاهدية، والالتزامات الطوعية للمملكة أمامها، فإنها تهدف بشكل أساسي إلى الحرص على الملاءمة الداخلية للقوانين المتصلة بمجال هذه الحرية، ضمانا لانسجام الخطاب الرسمي الذي توجهه السلطات العمومية إلى الخارج، مع الممارسة الفعلية على الصعيد الوطني.
واعتبارا لذلك، فإن العصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان تقترح:
سحب مشروع القانون رقم 71.17 القاضي بتغيير وتتميم القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، من مجلس النواب؛
توجيه أنظار قضاة النيابة العامة إلى تطبيق مقتضيات الفصل السادس من مجموعة القانون الجنائي، من خلال الاستناد في تحرير صكوك المتابعة في الحالات المتعلقة بحرية التعبير بشكل أساسي على مقتضيات قانون الصحافة والنشر، باعتباره القانون الخاص المتعلق بمجال حرية التعبير، وإعمالا للقاعدة للقواعد الفقهية المتواترة في هذا المجال خاصة ما يتعلق بقاعدة &الخاص يقيد العام&، وقاعدة &تطبيق القانون الأصلح للمتهم&؛
توقيف المتابعات الجارية في حق بعض النشطاء، المتابعين في حالات اعتقال أو سراح، من أجل جرائم ترتبط بالتعبير عن الآراء، والمستندة إلى مقتضيات القانون الجنائي أو قوانين أخرى غير قانون الصحافة والنشر؛
تقديم مقترحات أو مشاريع قوانين، من أجل نسخ المقتضيات القانونية المشددة الواردة في كل من مجموعة القانون الجنائي، أو قوانين أخرى، متى تبين تجريمها في مواد قانون الصحافة والنشر؛
فتح نقاش عمومي بمشاركة الهيئات الحقوقية، من أجل الرصد الفعلي للحالات التي يتم فيها توظيف هذه الازدواجية التشريعية بشكل لا يراعي التزامات المغرب الحقوقية، أو بشكل يسيء إلى صورته؛
تقديم الاعتذار، والتعويض لضحايا هذا التوظيف خلال السنوات الأخيرة، والذين يمكن حصر لائحتهم لاحقا.