أبان الفنان والخطاط الكبير الدكتور محمد البندوري عن حنكة وتجربة رائدة في مجال الخط المغربي فبعد سلسلة من الدراسات العلمية الجديدة حول مكنونات الخط المغربي يتحدث الباحث اليوم عن الرموز في الخط المغربي واعتبر أن الثقافة المغربية تتسم باحتوائها لزخم من الرموز التي شكلت ولا تزال تشكل هوية ثقافية ذات أهمية كبيرة، وظهرت في السكة النقدية المغربية وفي بعض الجداريات أنـــواع من تلــــــك الرموز التي اتخذت أحيانا صيغة متشابهة بين ما تحمله السكة النقدية وما تحمله الجداريات، وقد شكل ذلك لغزا، لكنه لا يفتأ يخلو من دلالات ومعاني.
فهناك أشكال هندسية متنوعة منها الدائرة التي تتصل بعناصر التراث العريض، وتتصل أيضا بالعناصر الأساسية لتفكير الإنسان المغربي وتعامله مع هذه العناصر وتأثره بها وفق ثقافته التي توجه مسار التفاعل معها. لكنها الآن أضحت أشكالا هندسية تجريدية تحتاج إلى قراءة وتأويل لتستجيب لدواعي الحاضر وفق ما تختزنه من عوالم وتصورات ورؤى، وكذلك ما تقدمه على مستوى الخطاب الجمالي. فهي تضع أمامنا مشهدا تجريديا غنيا بخصائصه التاريخية وغنيا بالقيم الفنية والجمالية بما ترتكز عليه من مظاهر خارجية.
وتشكل الوحدات الخطية والأشكال الهندسية طابعا جماليا في السكة النقدية المغربية، فقد ولع الموحدون والمرينيون والسعديون والعلويون بجمالية خط الثلث المغربي فوظفوه في السكة النقدية حيث مكنهم من التجديد وإضافة بعض الأشكال الهندسية وبعض الرموز. فبالإضافة
إلى التوزيع في الكتابة الخطية وبسط الخطوط داخل الأشكال الهندسية المربعة والمستديرة والمثمنة الشكل، نجد ثقبين دائريين متوازيين عند نقطة زاوية المربع أو المثمن من أعلى اليسار وأسفل اليمين.
ويشكل هذا الثقب الدائري أحد السمات البارزة في النماذج النقدية المغربية المتنوعة، لكنه يشكل رمزا ملغزا، وهو يكثف جملة من المعاني تكشف طبيعة هذا الرمز الذي يعتبر موغلا في القدم بما يحمله من قضايا كونية. وبناء على ذلك فقد اعتبرت الدائرة المثقوبة تمثيلا للفضاء الذي يشع منه النور، أما محيط الدائرة فيدل على اللاتناهي الذي ليست له نهاية، والثقب الدائري يرمز إلى الفضاء ويمثل المعالم الروحية ويعكس الإيجاب إذا امتزج باللون الأصفر أو الأبيض أو الذهبي. ويشكل في عدة مفاهيم وفي بعض الثقافات النبض الحقيقي للحياة المليئة بمختلف القضايا الإنسانية، ونبض حقيقي لدائرة من الألوان الطبيعية التي تبعث الجمال والراحة النفسية. ومن ذلك أنه يعد رمزا للاكتمال ويرمز للدائرة الشمسية، وإلى الأفق وإلى الوحدة وإلى الاتصال. ويعني كذلك التناغم والانسجام والتوحد والعهد والوفاء ورمز للخط المشع اللانهائي.
ويتشكل هذا الرمز من الدائرة والثقب، ليشكلا معا وحدة شكلية منسجمة وموحدة، وقد استخدمت كعنصر بارز وواضح بهدف جمالي ورمزي، فهي لها صلات بالرؤية الجمالية من
المنظور الإسلامي والصوفي، إذ أن النقطة المفتوحة التي تطل على السماء تمتد أنوارها في الأفق، وهي تدل على الاستمرارية الإيجابية وتداول السعد.
وقد ارتبطت هذه الوحدة في الثقافة المغربية العربية الإسلامية بالخط العربي والزخرفة المغربية الإسلامية من خلال الدائرة التي يعتبرها إخوان الصفا هي أشرف الأشكال. وقد يزكي ذلك ما توصف به عند البعض الآخر بالمحبة والعدل والرضى والطمأنينة الأبدية.
وقد اتخذت صبغة جليلة في الفكر الصوفي المغربي حيث تم اعتبارها وحدة من وحدة الوجود، إذ أن الدائرة موجودة في الشمس وفي القمر وفي الأرض وفي مختلف الأفلاك والكواكب، وفي وسط العين وفي كل مباعث الجمال في الكون. فهي حاضرة في الوجود بطريقة منظمة ودقيقة وجميلة وجليلة القدر.
وتشكل الدائرة / الثقب في هذه السكة النقدية رمزا يجاور هذه المعاني، وينفتح على الفعل الإنساني بالأمل والتجديد والوحدة والتماسك واستمرارية السعد.
فالثقب الدائري في السكة النقدية لم يكن اعتباطيا وإنما كان يوظف في وفق ثقافة معينة واستنادا إلى عوالم روحية ومعارف واتجاهات دينية وظواهر اجتماعية تشكلت في الذهنية القديمة، فتجلت جماليا في النقود، وقد اتخذ شكلين أساسيين: يتمثل الأول في إنشاء ثقبين: واحد في أسفل اليمين، والثاني في أعلى اليسار. ويتمثل الشكل الثاني في إنشاء ثقب واحد جهة اليسار.
ولا يقتصر هذا الرمز على السكة النقدية وحدها وإنما يمتد إلى باقي وسائل العمران كما في بعض الجداريات مما تشهد به الآثار القديمة. وهو يتوسط طول الجدارية من جهة اليمين، كما هو الشأن في بعض الآثار المرينية.
لقد امتزج في الجداريات الخط بالثقب الدائري، – كما هو في شواهد السكة النقدية -بمجموعة من التأثيرات التي تتعالق فيما بينها كتعالق العقائد والفن والميثولوجيا أو تأثرها اجتماعيا بالمعطيات المتوافرة، كرمز أو إشارة يدلان على معنى، فتبرز هويته الجمالية مرتكزة إلى شكله المقترن بجذوره الجمالية والحضارية. وهذا الرمز المتمثل في الثقب الدائري هو قائم بذاته في نسق من الرموز الأخرى والدوال الخطية، إذ يحل محل غيره ويشكل بديلا له في نطاق مجموعة من العلاقات حيث إن له دلالة ما بين المدلول والشكل. وبتفحصه يبدو أنه إبداع ينطوي على أبعاد روحية وفق أفكار معنوية تشكل حقيقة نسبية في زمانها، تشكل نظاما لتطور الشكل الذي اتخذ مسارا تجريديا فيما بعد، وتسامى فوق الواقع. وهو الآن تعبير جمالي وتجلي بصري للفكرة التي أنتجته، وتعبير عن القيم الجمالية التي تخدم الغرض الفني وتخدم كذلك إنتاج الدلالات. ويعتبر الثقب الدائري رمزا خصيبا ببنية هندسية اختزالية دالا على أغراض دينية روحية تمتد في الأفق البعيد، لذلك تم تشكيل الدوائر وفق ثقب مفتوح على الفضاء تمتد منه الأنوار، وبذلك يدل على الراحة النفسية الأبدية. وقد تم اعتبار هذا الثقب الدائري قديما بوابة للعالم العلوي السامي، وقد يتأكد هذا المعنى في هذا الرمز من خلال الشكل في مجمله لأنه يماثل شكل البوابة في الواقع.
ويمكن استنتاج أن الثقب الدائري سواء في السكة النقدية المغربية أو في الشواهد الأثرية هو رمز تواصلي للفكر والمعرفة في الذهنية المغربية، فوجود الشكل الدائري والثقب في صلب التشكيلات الخطية كوحدة مركزية تغذي المعنى العام وتتصل بالمحيط هو تأكيد لتلك الرمزيته ودلالة على معنى، فليس من الصدف أن تتواجد تلك الثقب الدائرية في السكة النقدية وفي الشواهد الأثرية، وإنما هي تقوم على معناها الخفي وتتخذ ذلك الشكل وتلك القيمة الجمالية التي تمتح مقوماتها من الأسس الهندسية والفنية للدائرة وتستمد قيمتها الرمزية من العوالم الروحية، في نطاق العلاقة بين النقطة المركزية في الثقب والمحيط، حيث تحكمهمـــــــا الحركة المحيطة بهما، وهي حركة دائرية مستمرة، تتطور باستمرار وتترابط مع الفكرة وفق ظاهرة فنية لغوية على شكل الثقب الدائري. وهي حقيقة من حقائق الثقب الدائري في السكة النقدية وفي الشواهد الأثرية كحقائق يتمثلها الفكر الصوفي، فهي تحقق معنى استمرار الجمال في الفعل، جمال الأخلاق جمال القيم جمال الفضائل الطمأنينة الراحة والتماسك ثم استمرارية السعدالذي مصدره الأول الراحة النفسية التي مردها الأول العدل والإحسان والارتباط بمختلف القيم الخيرية فهي وجود بالقيم ووجود بالجمال. فالثقب الدائري يمثل معنى الفعل الجمالي المتحرك والمستمر في الجوهر وفي الوجود.