واشنطن: سكوت آندرسون
تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، التحقيق الاستقصائي المطول الذي أعدته مجلة «نيويورك تايمز»، وكتبه سكوت آندرسون، وبعدسة باولو بيليغرين.
يركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عامًا؛ مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي، وبزوغ أزمة اللاجئين العالمية. قدمت المجلة القصة في خمسة أجزاء، هي: «الجذور»، و«حرب العراق»، و«الربيع العربي»، و«صعود (داعش)»، و«الهجرة الجماعية»، من خلال عدد ملحمي يحتوي على أكثر من 40 ألف كلمة، واستغرق إعداده نحو 18 شهرا. يحكي قصة ما وصفته بـ«الكارثة التي كسرت العالم العربي» وكيف تكشفت علاماتها من خلال عيون ستة أشخاص من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق.
قالت المجلة في مقدمة عددها «الاستثنائي» إن «جغرافية الكارثة واسعة وأسبابها متعددة، ونتائجها الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم». وتصاحب قصة آندرسون 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال الـ14 عاما الماضية، تعطي إحساسًا عميقًا بالكارثة. في الحلقة الثامنة اليوم يروي الشهود.. قصة ظهور «داعش».. وقضايا أخرى من مصر.. وسوريا والعراق.
كان العراقي وكاظ حسن يتخبط في دراسته بالمدرسة: «كنت أفشل دائما كلما حاولت الدراسة»، ربما بسبب مشكلة في حاسة السمع، فغالبا ما يطلب من الآخرين بصوت منخفض أن يكرروا ما قالوه، وبعد أن أجبر على إعادة السنة الدراسية، ترك وكاظ الدراسة.
وبعد مرور سنوات عدة، وعندما وصل سن المراهقة، انضم وكاظ إلى جيوش الشباب العراقيين ممن يؤدون أعمالا لا تتطلب مهارة، مثل أعمال التشييد اليومية حمل أحجار البناء وقطع حديد التسليح وخلط الإسمنت. وعندما توقفت أعمال البناء، كان أحيانا يساعد في محل بيع الحلوى الذي يمتلكه والده، كاتب بنك متقاعد، والذي افتتحه في بلدته الدوار القريبة من تكريت. بيد أن التجارة كانت ضئيلة والربح زهيدا.
لم يكن هناك سوى مخرج واحد أمام وكاظ. ففي ظل سعي وكاظ لإيجاد عمل متوسط الحال، تسلم شقيقه محمد عمله ضابط مخابرات مع ضباط الأمن المحليين، وحملت تلك الخطوة أملا كبيرا لعائلة حسن. وبالنظر لثقافة المحاباة التي زرعها صدام حسين في العراق، التي استمرت في النمو حتى بعد وفاته، كان من حق وكاظ أن يحلم بأن أخاه سيفتح الطريق أمامه للعمل في البلدية ليعول أشقاءه الثلاثة الأصغر منه سنا، ومنهم وكاظ، أو حتى العمل في قوات الأمن. لكن في يونيو (حزيران) 2014 سلسلة من الأحداث العنيفة كانت على وشك ضرب المناطق السنية في العراق، وتغيير مصير العامل الذي لم يتعد عمره 19 عاما في مدينة الدوار.
ففي بداية ذلك العام، انتزع مقاتلو «داعش» السيطرة على مدينة الفلوجة في العراق بمحافظة الأنبار العراقية، ثم تمددت للسيطرة على عدد من المدن والبلدات القريبة. في هذا الوقت، لم يكن وكاظ يعلم سوى القليل عن التنظيم غير أنها تسعى إلى تأسيس دولة تكون نواة للخلافة الإسلامية في الأراضي السنية بالعراق وسوريا. وعلى مدار الشهور التالية، شأن غيره من سكان تكريت، شاهد المقاطع المصورة التي تظهر عمليات التجنيد التي أعدها «داعش» ونشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي. أظهرت المقاطع محاربين، أو فرسان، بحسب تسمية «داعش»، بزي أنيق وأقنعة سوداء يصولون ويجولون في المدن التي سيطروا عليها، رافعين رايات سوداء ترفرف سيارات «تويوتا لاند كروزر». أظهرت مقاطع أخرى في تلك الفترة الجانب الأسود لـ«داعش» تمثل في عرض عمليات الإعدام والصلب، لكن وكاظ زعم أنه لم ير تلك المشاهد مطلقا. وعلى أي حال فقد بدت بذرة دولة الخلافة بعيدة عن مدينة الدوار الناعسة والتي تحتضر اقتصاديا.
* احتلال الموصل
بحلول يونيو 2014، لم تعد الدوار بمنأى عن دولة «داعش»، ففي 6 يونيو، اقتحمت جماعة تابعة لـ«داعش» الضواحي الغربية للموصل، أكبر مدن شمال العراق، على بعد 140 ميلا من بداية طريق الرئيس المؤدي إلى تكريت. ورغم أن عدد قوات «داعش» التي غزت الموصل قدّر بنحو 1500 مسلح قبل أن يتراجع الرقم في اليومين التاليين، كان عدد قوات الجيش والأمن التي تأهبت لمواجهتهم يقدر بعشرات الآلاف في مدينة يبلغ عداد سكانها مليوني نسمة. وفي 9 يونيو، شهد الطريق السريع الذي حول تكريت فرارا جماعيا لآلاف الجنود العراقيين، بعضهم كان قد تخلص بالفعل من زيه وهرعوا للاحتماء بحالة الأمن في بغداد التي تبعد 100 ميل جنوبا. وبعد السيطرة على الموصل، تقدم مسلحو «داعش» بسرعة تجاه بيجي، مدينة البلدة التي تضم مصفاة النفط التي تبعد 40 ميلا شمال تكريت، وفي 11 يونيو، دخل المسلحون تكريت نفسها.
في تكريت، شأن الموصل وبيجي، لم يبد الجيش العراقي أي مقاومة، وانحصرت المنافسة بين مختلف وحدات الجيش في سرعة الهرب، وفي كمية الأسلحة التي تركزها للعدو من خلفهم. ورغم أن الجيش قد هرب من المنطقة، يغادرها سوى القليل من المدنيين، وكان وكاظ من بين من تبقوا وشقيقه محمد.
كان هجوم «داعش» في يونيو 2014 أحد أكثر الأعمال العسكرية غرابة في التاريخ الحديث، ففي خلال أقل من أسبوع واحد قامت قوة مسلحة بأسلحة خفيفة تضم نحو 5000 مسلح بهزيمة وبتشتيت جيش حديث ومسلح يفوق عدده نحو 20 ضعف تلك الجماعة، ونجحوا في الاستيلاء على أسلحة حديثة ومركبات عسكرية تقدر قيمها بمئات المليارات من الدولارات، والآن باتوا يسيطرون على مناطق يسكنها نحو 5 ملايين نسمة.
من ضمن أسباب الفشل الذريع الذي أدى إلى انهيار الجيش العراقي.. عدم الكفاءة والفساد اللذان لعبا دورا كبيرا في التاريخ الحديث للجيش.
ففي ظل حكم رئيس الوزراء نوري المالكي الذي دام لعشر سنوات، هيمنت الأحزاب الشيعية على غالبية تشكيل الحكومة الوطنية، منها الجيش، ليمارسوا استبدادا على الآخرين للمرة الأولى. بالنسبة للكثير من السكان في مناطق، بينها تكريت وبيجي، فقد تسبب ذلك في حالة من عدم الاحترام للحكومة والجيش، اللذين نظر إليهما الشعب بصفتهم محتلين. بالطبع، فإن هذا الجيش الذي يسيطر عليه طائفة واحدة كان مدركا قدر الاحتقار الذي يحمله السكان تجاهه، وكان الجيش لا يثق بهم في المقابل لدرجة أنه بعد حدوث الاضطرابات، انطلقت مجموعة صغيرة من مقاتلين من طائفة السنة باتجاه المدينة بعد أن تعهدت بالانتقام، جعلت جنود الجيش، الذين يخشون انتفاضة جماعية ضدهم، يسرعون بالهرب.
لا يمكن اعتبار كل هذا الخوف لا أساس له؛ ذلك لأن «داعش» كانت أسست مقدما وبمهارة خلايا نائمة في تلك المدن للمساعدة في الهجوم عندما تبدأ المعركة، ولتجنيد أعضاء جدد لخدمة هدفهم، وكان منهم وكاظ حسن. فبحسب وكاظ، فقد انضم إلى «داعش» في 10 يونيو 2014، بعدما بدأ نشاط عصابات الشوارع في تكريت على مدار يوم كامل قبل أن يبلغ الهجوم ذروته. ولم يكن الشخص الذي جنده سوى شقيقه محمد، الذي يبلغ من العمر 26 عاما، والذي تلقي تدريبا على يد القوات الأميركية، ويعمل ضابط استخبارات في الحكومة العراقية. «لم يكن الدين هو الدافع»، وفق وكاظ، مضيفا: «لم يكن السبب وجود أي صلة عاطفية تجاه ذلك التنظيم، ولم أكن أعلم الهدف الذي كانوا يقاتلون من أجله، لكن الدافع الوحيد هو أن محمد قال إن علينا الانضمام».
ما لم يتطرق إليه وكاظ كان دافع الحصول على المال، فبحلول صيف 2014 انتعشت خزائن «داعش» بعد السيطرة على حقوق النفط بشرق سوريا للدرجة التي مكنته من سداد 400 دولار شهريا للجنود غير المدربين، وهو مبلغ يفوق بكثير ما كان يتقاضاه وكاظ الذي لم يتخط عمره 19 عاما من التنقل بين أعمال الإنشاء. وبالطبع، فبعد الاستيلاء على مصفاة نفط بيجي، لم تعد «داعش» في حاجة إلى التحكم في سدادة الصنبور بعد أن أصبحت تقف على نبع متفقد من المال.
وكونهم أعضاء مجندين في تنظيم داعش، فقد ساعد محمد ووكاظ في السيطرة على تكريت في 11 يونيو، وعلى الأقل لعب الشقيقان دورا مساعدا في أكثر فظائع «داعش» وحشية على الإطلاق، وكان ذلك في شهر يونيو.
فإلى شمال تكريت تقع قاعدة تدريب عسكرية كبيرة لا تزال تعرف باسمها الأميركي «كامب سبايكر»، كان آلاف من الطلاب يتلقون تدريباتهم هناك عندما اقتربت «داعش» من المكان. وكما كان متوقعا من الجنود العراقيين بحسب سلوكهم في باقي المناطق، أطلقت وحدات الجيش النظامي المتمركزة بالمعسكر، بمن فيهم قائدهم الأعلى العراقي، سيقانها للريح بمجرد سماع خبر اقتراب «داعش»، تاركين خلفهم الطلاب العسكريين من دون حراسة. قال وكاظ إنه ساعد في تحميل الطلاب في شاحنات، لكنه لم يشارك فيما حدث لاحقا.
وبعد تصنيف الطلاب العسكريين إلى فريقين، السنة في جانب والشيعة في جانب، ساق مسلحو «داعش» الطلاب السنة إلى مناطق متفرقة حول تكريت لفتح النار عليهم. وثق أعضاء «داعش» أنفسهم المذبحة بكاميرات الفيديو لنشرها لاحقا على الإنترنت. من المعتاد أن ينكر أو تقلل عصابات الشوارع من حجم جرائمها، لكن الحال كان مختلفا مع «داعش»، فعندما قدر مراقبون خارجيون عدد الطلاب القتلى بنحو 800 في تكريت، افتخر المتحدث باسم «داعش» بأن العدد كان أكثر من ذلك بكثير (كشفت عملية حصر عدد القتلى أن العدد الحقيقي تخطى 1700).
وبعد مذبحة «كامب سبايكر»، وقع وكاظ عقدا للتجنيد، وكان المدهش في الأمر أن منظمة إرهابية تعمل بشكل بيروقراطي. وتحرك وكاظ وسط مجموعة كبيرة من المجندين عبر الطريق السريع إلى مجمع تابع لـ«داعش» خارج مدينة الموصل. وهناك تعلم وكاظ المهارات الأساسية المفروضة على الجنود الجدد في أي مكان؛ وشملت تخطي الموانع، واستخدام مختلف الأسلحة، والتمارين على تماسك المجموعة في أرض المعركة. لكن بعد ذلك بوقت قصير أخذت التمارين شكلا وحشيا.
ففي صباح أحد الأيام من شهر يونيو، استدعى وكاظ من ثكناته عن طريق قائد كبير ليأمر الجندي البالغ من العمر 19 عاما أن يتبعه، وقاده إلى ساحة في أحد أركان المعسكر، وبعد لحظات انضم إليهم اثنان آخران، مقاتل من «داعش» ومدني في الثلاثينات من العمر. كان المدني معصوب العينين ويداه مقيدتان خلف ظهره، وكان يبكي. أجبر مقاتل «داعش» المدني على الركوع على ركبتيه وسلم القائد مسدسا لوكاظ، وأدرك عامل البناء اليومي السابق المطلوب منه في تلك اللحظة بدقة. «فقد علموني كيف أفعل ذلك»، وفق وكاظ، مضيفا: «صوب فوهة المسدس لأسفل، ولا تصوب في منتصف الرأس بالضبط، لكن انحرف قليلا لأحد الأجناب».
ففي ميدان التدريب، تدرب وكاظ على أول تنفيذ أول عملية إعدام بنفسه، ثم استدعي خمس مرات لاحقا لتنفيذ عمليات إعدام أخرى لأشخاص معصوبي العينين. فبحسب وكاظ: «لم أكن أعلم شيئا عنهم، لم أكن أعرف أكثر من أن أعمارهم كانت بين 35 – 70 عاما. بعد الشخص الأول، شاهدت شخصا آخر يبكي قبل الإعدام، لكن من أتوا بعد ذلك ربما لم يكونوا على علم بما ينتظرهم».
سرد وكاظ كل ما فعله، لكن من دون أن يبدو عليه تأثر عاطفي، لكن فجأة بدا وكأنه أدرك متأخرا حجم ما اقترفه من جرم، حرك كتفيه قائلا: «شعرت بحجم ما فعلته، لكن لم يكن أمامي خيار آخر، فبمجرد وصولنا إلى الموصل، لم يكن هناك مجال للمغادرة، ومع (داعش)، إن لم تطع الأوامر فستقتل أنت أيضا».
* مجد إبراهيم.. من سوريا
عاشت أسرة إبراهيم القسم الأكبر من عام 2014 في أمان نسبي في منزلها الجديد في وسط حمص. وفي ظل اتفاق وقف إطلاق النار في المدينة، انتقلت المعارك الجديدة إلى الضواحي. وأدى وقف إطلاق النار إلى إعادة فتح فندق سفير، الذي كان يعمل به والد مجد، رغم أن ذلك كان احتمالا غير وارد. وبداية من سبتمبر (أيلول)، تسلم مجد وظيفة موظف استقبال في الفندق. وقال مجد وهو يتذكر: «مع وقف إطلاق النار اتجه كل شيء نحو التحسن. لن أقول إن الأمور عادت إلى سابق عهدها، وطبيعتها، فأكثر أجزاء المدينة كانت قد تدمرت، لكنك كنت ترى الحياة وهي تعود».
تقوض الشعور بالهدوء المتنامي صبيحة يوم 1 أكتوبر (تشرين الأول) 2014، كان مجد حينها في العمل حين تلقى مكالمة ثائرة من والدته تخبره فيها بوقوع انفجار في مدرسة «عكرمة المخزومي»، التي كان بها علي، شقيق مجد الأصغر البالغ من العمر 11 عاما، وكانت هناك أنباء عن وقوع إصابات كثيرة. وسارعت والدته بالتوجه إلى هناك، لكن لم يتمكن مجد من مغادرة العمل إلا بعد 90 دقيقة. ذكرى ما رآه عندما وصل إلى المدرسة أخيرًا لا تزال قادرة على الدفع بمجد، ذي الشخصية المرحة دائمًا، نحو ركن مظلم داخل ذاته، حيث سكن الحزن عينيه، ولاحت فيهما نظرة إلى بعيد. قال: «لم أكن أتخيل حدوث شيء كهذا، لقد كان الأمر أشبه بالكابوس، أسوأ كابوس. كان الدم يغرق المشهد، وأشلاء الأطفال في كل مكان حولك، حيث كنت تتحرك بينها، وتدعس عليها». أغلق عينيه للحظات، وحاول جاهدًا السيطرة على أنفاسه، واستأنف حديثه قائلا: «إنه أمر لا أستطيع إخراجه من عقلي».
فقط عندما علم مجد بتفاصيل ما حدث، بدأ يدرك مدى وحشية الهجوم. وحين بدأ الآباء، وعاملو الإغاثة الاحتشاد داخل مدرسة «عكرمة المخزومي» بعد أول انفجار تم تنفيذه بسيارة مفخخة، حاول انتحاري دخول الفناء الرئيسي بالمدرسة لقتل المزيد؛ وحين منعه أحد الحراس فجّر نفسه أمام البوابة الرئيسية. عندما وصلت والدة مجد إلى موقع الانفجار، وجدت علي يختبئ مع مجموعة من زملائه المرعوبين في الجزء الأخير من المدرسة.
جدير بالذكر، أن الانفجار المزدوج في المدرسة أودى بحياة 45 على الأقل، 41 منه من الأطفال. كان ذلك بمثابة تذكرة، وكأن أهل حمص في حاجة إلى مثلها، بأنه في سوريا الجديدة، لا يوجد ملجأ آمن حقًا، ولا يوجد مكان بمنأى عن القتلة. في أعقاب الحادث، لم تبارح أسرة إبراهيم المنزل إلا عند الضرورة مثلها مثل غيرها في عكرمة الجديدة.
المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»