واشنطن: سكوت آندرسون
نواصل نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، في تحقيق استقصائي مطول عن مجلة «نيويورك تايمز»، كتبه سكوت آندرسون، وبعدسة باولو بيليغرين. يركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عامًا، ما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي، وبزوغ أزمة اللاجئين العالمية. قدمت المجلة القصة في خمسة أجزاء وهي: «الجذور»، و«حرب العراق»، و«الربيع العربي»، و«صعود «داعش»، و«الهجرة الجماعية». ونشرت عددًا ملحميًا يحكي قصة ما وصفته بـ«الكارثة التي كسرت العالم العربي»، ثم ثورات الربيع العربي، وظهور «داعش»، وأخيرا أزمة النازحين العالمية. وقالت المجلة في مقدمة عددها «الاستثنائي» الذي استغرق إنجازه عامًا ونصف العام، إن «جغرافية الكارثة واسعة وأسبابها متعددة، ونتائجها الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم مألوفة لنا جميعًا». وتصاحب قصة آندرسون 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال الـ14 عاما الماضية، تعطي إحساسًا عميقًا بالكارثة، وكيف تكشفت أماراتها من خلال عيون ستة أشخاص من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق. وفي الحلقة السادسة اليوم يروي الشاهد السوري مجد إبراهيم تفاصيل مثيرة للغاية.
مجد إبراهيم من سوريا
قضى مجد ثلاثة أشهر في دمشق مع اندلاع حروب الشوارع في أنحاء بلدته، وحتى على رغم هدوء الوضع في العاصمة – وإن كان مقلقا – فقد كان متلهفا للعودة إلى أسرته ودراساته. وأخيرا في مايو (أيار) 2012، هدأ الوضع في حمص بما فيه الكفاية ليسمح بعودة الدراسة الجامعية.
كان مجدي قد ظل على تواصل بانتظام مع والديه وأصدقائه خلال إقامته بدمشق، ومن ثم كان يعرف أن القتال في حمص متركز في حي باب عمر جنوب المدينة. وكان قد قيل له إن الدمار هائل، لكنه لم يكن مستعدا ليرى ذلك رؤيا العين. يتذكر: «مررنا عليه بالسيارة وعدنا مجددا. حسنا، كان قد ذهب تماما. ذهب كل شيء. أتذكر محاولتي أن أجد شيئا إيجابيا، هل تعرف هذا الإحساس؟ يجب أن يأتي كل الناس ليروا هذا. إذا رأى الناس باب عمرو الآن، فهل يمكن أن يكون عبرة. سيفهمون مدى فظاعة الحرب».
لكن سرعان ما تبينت سذاجة هذه الفكرة، ففي غضون أسابيع من عودة مجد، استعر القتال في حمص من جديد. وفي هذه المرة، كان النظام يستهدف جماعات المعارضة في حي الخالدية، ولأن تمركز مدفعية الجيش الأساسي كان قرب حي الواعر، فكان معنى ذلك أن القذائف كانت تعبر مباشرة فوق منزل إبراهيم السكني طوال الوقت.
قال مجد: «عندما مرت الصواريخ فوق رؤوسنا. كان يبدو كأن الهواء قد تم شفطه. لا أعرف بأي كلمات أخرى يمكنني وصفه، لكن كنت تشعر بهذا في رئتيك. كان من الصعب التنفس ربما لدقيقة بعد ذلك، كما لو أن كل الأكسجين نفد».
استعر القتال في حمص خلال صيف 2012، مع استهداف الجيش الأحياء التي تسيطر عليها المعارضة، الواحد تلو الآخر، بطريقة منهجية، وكانت هجماتهم البرية مدعومة بالدبابات والمدفعية والطائرات المروحية الهجومية. ومع هذا، فقد ظل حي الواعر، الذي يقطنه سكان من الطبقة العاملة، واحة من الهدوء النسبي. ويعود هذا – بحسب مجد – إلى تنوع الواعر، حيث تضم تركيبته السكانية السنة والعلويين والمسيحيين، ولم تكن أي جماعة مسلحة من جماعات المعارضة تسيطر عليه فعليا، ولم يكن للميليشيات وجود فعلي في الحي، فما كان الجيش السوري النظامي يهتم به.
بحلول خريف 2012، بدأ هذا يتغير. في شوارع الواعر لاحظ مجد مزيدا من الشباب يحملون الأسلحة، كان منهم من يرتدون شارات مميزة، كان معظمها يشير إلى الجيش السوري الحر. كما لاحظ رجل الجماعات المسلحة مجد، الذي كان في عمر مناسب تماما للقتال، 20 عاما. وباتت محاولاته اليومية للذهاب للجامعة تزداد صعوبة، مع استيقافه من قبل المسلحين وسؤاله عن انتماءاته، أو توبيخه لعدم الانضمام إلى صفوفهم. وردا على التوترات المتزايدة في الواعر، بدأت عائلة إبراهيم تستأجر «منزل إيواء» (وهو إجراء للسلامة أقبل عليه كثير من سكان الحي القادرين ماليا). الآن، ومع فرار كثير جدا من العائلات من حمص، فقد بات كثير من الشقق السكنية المؤثثة خالية في أنحاء مختلفة من المدينة. ومن خلال الاتصال بواحد من الأسر التي غادرت إلى دمشق، نجح والد مجد في ترتيب شقة بالإيجار في حي بعيد لاستخدامها متى توترت الأجواء في الواعر. في البداية، كان آل إبراهيم يتوجهون إلى منزلهم الآمن من حين لآخر فقط، لكن بداية من مطلع 2013. زاد ذهابهم إلى المنزل المستأجر كثيرا، بحيث أصبح ذلك يحدث مرتين أو 3 مرات أسبوعيا. كان الهاجس الأكبر بالنسبة لهم هو سلامة الابن الأكبر من الجماعات المسلحة.
أوضح مجد: «كان معظمهم رجالا من الحي الذين نجحوا في وضع أيديهم على بعض الأسلحة النارية. كنت أعرف كثيرا منهم – فقد نشأت معهم – ومن ثم كان ذلك جيدا. لكن كان مزيد ومزيد يأتون من الخارج، وكان هؤلاء الرجال عنيفين. كان كثير منهم من الناجين من المعارك في باب عمر والخالدية. كان يشكون في الجميع، ولا تعرف أبدا ما الذي سيقدمون على فعله».
وما أضاف عنصرا آخر مقلقا إلى هذا المزيج أن كثيرا من المقاتلين كانوا يتعاطون المواد المخدرة، حيث كانوا يتناولون عادة منشطا يعرف بـ«الكابتاغون» الذي كان يبقيهم متيقظين لأيام، كما كانوا يتعاطون عقارا مضادا للقلق اسمه «زولام»، لتهدئتهم.
ومن بين كثير من الجماعات المسلحة التي وصلت إلى الواعر – ولم يكن كثير منهم أكثر من مجرد لجان دفاع شعبي عن الحي – كان الجيش الحر يرمق مجد تحديدا باحتقار. وفي حين كان كثيرون في دوائر السياسة الخارجية الأميركية يؤكدون رغبتهم بمقابلة علمانيين تقدميين، يمكن أن يقودوا سوريا، في حال حصولهم على الدعم، نحو الديمقراطية، فلم ير مجد إلا حفنة من الانتهازيين والجبناء.
قال: «كان لدى رجال الجماعات الإسلامية على الأقل بعض المعتقدات والانضباط. لكن معظم عناصر الجيش الحر في الواعر كانوا مجرد شباب صغار يريدون أن يتجولوا حاملين السلاح وترويع الناس. والمضحك هنا أنهم كانوا هم من يمكن إخافتهم بسهولة كبيرة. إذا جاءت جماعة أخرى إلى منطقتهم، كان كل ما يفعلونه هو أن ينضموا إلى هذه الجماعة».
في أحد الأيام قابل مجد قائدا شابا بالجيش الحر، كان يعرفه جيدا، وكان مدخنا شرها. كان يجلس مكتئبا ولا يدخن إلا القليل من السجائر. عندما سأله مجد عن سبب عدم تدخينه، أوضح القائد أنه لم يعد عضوا بالجيش الحر. استولت جماعة إسلامية على وحدته، وأعلنت أن التدخين حرام.
عودة إلى مجدي المنغوشي.. من ليبيا
في محاولته معرفة مصير أفضل أصدقائه، كان مجدي اصطدم بمأساة ذات بعد أكبر بكثير. وكما بدا، فإن كل طرف من أطراف الثورة الليبية قام بدور في قتل طلبة الكلية الجوية. وكما حدث في حالة جلال، استخدمت قوات القذافي بعض الطلبة طعما ضد الثوار، لكنهم أعدموا آخرين كذلك لمجرد محاولتهم العودة إلى ديارهم. وبدورهم، فإن الثوار، بعد قتل كثير من الطلبة في ساحات القتال، أقدموا على إعدام عدد لا يحصى من «أنصار النظام» في غمرة الانتصار. في مطلع 2012، كان يجري احتجاز أعداد من الطلبة الذين نجوا من هذه المقتلة الجماعية في سجون تابعة للثوار، في حين كان عدد أكبر بكثير منهم يعيشون مختبئين. ومن بين زملائه طلبة الكلية الجوية في مصراتة المقدر عددهم بـ580 طالبا، يقدر مجدي أن ما بين 150 إلى 200 قتلوا خلال الحر وبعدها مباشرة.
قال: «وكنا مجرد طلبة. هذا كل شيء بالنسبة إلينا. كلا الطرفين استخدمنا، وكلا الطرفين قام بذبحنا».
وعلى الرغم من كل هذا، فقد كان مجدي متفائلا جدا في البداية حول المستقبل في ليبيا بعد الثورة، فالبلد كان يملك النفط، وشعبا ذكيا، وبعد 42 عاما من حكم العقيد معمر القذافي، الإرادة في الحصول على حياة أفضل. وفي رأيه، كانت أولى الخطوات الخاطئة الكبرى عندما أعلنت الحكومة المؤقتة في طرابلس، المجلس الوطني الانتقالي، أنه سيدفع رواتب لكل من قاتل نظام القذافي. وفي غضون أسابيع كان عدد «الثوار» الذي يقدر بـ20 ألفا، وهذا بحسب أكثر التقديرات سخاء، زاد إلى ما يقرب من 250 ألفا. والأسوأ أن هيكل الرواتب، الذي رضخت له الحكومات الغربية المتحالفة مع المجلس الانتقالي، خلق حافزا ليس فقط لتكوين جماعات جديدة، بل أن تظل هذه الجماعات مستقلة عن أي قيادة مستقلة، إذ إن ذلك يجعل فرصها أفضل في المطالبة بنصيب من كعكة الأجور. وبالفعل بنهاية 2012، كانت الميليشيات الليبية – بعضها يتألف من ثوار حقيقيين، وآخرين ممن لا يعدون كونهم ميليشيات قبلية أو عصابات إجرامية – بدأت تقسم البلد إلى إقطاعات متنافسة، وكانت قدرتهم على القيام بذلك تلقى الدعم المالي من الحكومة المركزية نفسها التي كانوا يعملون على تقويضها. ظهرت حالة عدم الاستقرار بوضوح لإدارة أوباما عندما تعرض المجمع الدبلوماسي الأميركي في بنغازي لهجوم في سبتمبر (أيلول) 2012، أدى إلى مقتل السفير كريستوفر ستيفنز وثلاثة آخرين. لكن بالنسبة إلى مجدي، فإن خيبة الأمل أخذت منحى شخصيا أكبر. في خريف 2012، حصل على «دبلومة» من الكلية الجوية، تعلن أنه أتم بنجاح كل ما يلزم للحصول على درجة في هندسة الاتصالات.
قال: «لم أكن أكملت أي شيء. لم تكن هناك أي حصص على مدار عام ونصف العام، ومن ثم فهذه الورقة كانت بلا معنى تماما. لكن كانت هذه ليبيا الجديدة.. كل شيء كان محض أكاذيب وفساد. وربما شعرت بما هو أكثر من هذا بسبب ما تعرضت له، وكل أصدقائي في الكلية الذين قتلوا، لكنني لم أكن قادرا على قبول ذلك. (خذ هذه الورقة، لا يجب أن يعرف أحد بهذا. أطلق على نفسك لقب المهندس). ربما قبل آخرون، أو كانوا يفكرون بالأمر من منظور سياسي أكبر، لكن عندما تسلمت شهادة الدبلومة رأيت الثورة وقد تعرضت للخيانة، وليبيا كدولة فاشلة».
واجه مجدي خيارا صعبا؛ كان بإمكانه استخدام شهادته المزيفة للحصول على وظيفة حكومية غير ذات صلة، أو يبدأ من جديد. في العام التالي، التحق بجامعة مصراتة لدراسة الهندسة. وفي الوقت نفسه تقريبا بدأ من جديد في المدرسة، وأصبح مجدي مشاركا كذلك مع جماعة بيئية مقرها في طرابلس، تسمى «محبو الأشجار». وجد إلهاما كبيرا من خلال عملهم، لدرجة أنه ساعد على بدء فرع لها في مصراتة. وفي حين كان الوضع صعبا، من حيث توفر الأموال والسلع، فإن مجدي والمتطوعين الآخرين زرعوا زهورا وشجيرات على امتداد الجزر الترابية التي تفصل بين طرق المدينة، وسعى لرفع وعي الناس بأهمية الحفاظ على المساحة الخضراء المحدودة جدا التي تمتلكها ليبيا. قال: «التصحر يمتد ليطال كثيرا من الأماكن في ليبيا، والسبيل الوحيد لوقف ذلك هو الأشجار».
لكن ربما كان هناك حافز شخصي بشكل أكبر في العمل بالنسبة إلى مجدي. كان من الظواهر الأكثر إثارة للفضول التي لوحظت بين الجنود السابقين في أغلب الأماكن الأخرى، هي الرغبة في العزلة، أن يكونوا منعزلين مع الطبيعية، وعندما زرته في مصراتة، كان لدى مجدي لهفة في أن يظهر لي الصحراء التي قام هو وزملاؤه من أنصار الحفاظ على البيئة بالعناية بها. في الساعات الأولى من صباح أحد الأيام، توجهنا بالسيارة خارج مصراتة، نحو المزارع والقرى الصغيرة في ضواحي المدينة الجنوبية.
لم تكن «صحراء» مجدي أكثر من مجرد بضعة صفوف من أشجار الصنوبر الهزيلة المزروعة بجانب طريق زراعي، مع تناثر القمامة التي يلقي بها الزائرون، لكنه كان فخورا بها. مضى بين الأشجار، وهو يحاول تفادي القمامة، وتنفس بعمق رائحة الصنوبر بابتسامة راضية.
ليلى سويف.. من مصر
بالنسبة إلى ليلى سويف، لم يكن من الممكن أن تكون أنباء 28 مايو (أيار) أسوأ مما كانت عليه. في مساء ذلك اليوم، أعلنت لجنة الانتخابات الوطنية المصرية اسمي رجلين كانا يتنافسان في جولة الإعادة، ليكون أحدهما أول رئيس منتخب ديمقراطيا في تاريخ مصر. كان هناك 13 مرشحا، وكان المرشح الوحيد الذي من المؤكد أن يتقدم السباق هو محمد مرسي، القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، التي كانت تملك ناخبين إسلاميين موحدين بما يكفي لتشكيل كتلة انتخابية فعالة. في مواجهة هذا المرشح كانت ليلى مستعدة لدعم أي من المرشحين الآخرين عدا واحدا. كان ذلك المرشح هو أحمد شفيق، رئيس وزراء مبارك السابق. في ذلك المساء أعلن أن المرشحين اللذين سيخوضان جولة الإعادة هما مرسي وشفيق.
تساءلت ليلى: «إذن ما العمل؟ كان مرسي غير مقبول تماما، لكن الآن إما هو وإما شفيق، ومن ثم كنا في خيار صعب. حسنا، إلا شفيق، فمعنى ذلك العودة إلى عهد مبارك – ومن ثم..».
وبهذه الطريقة وجدت ليلى سويف، الناشطة النسائية واليسارية القوية نفسها تدعم انتخاب رجل يدعو إلى عودة مصر إلى القيم الإسلامية التقليدية. كان كثير من المصريين الآخرين في حالة ذعر حيال الاختيار الذي وجدوا أنفسهم أمامه، وفي جولة الإعادة فاز مرسي بفارق هش، بنسبة 51.7 في المائة من الأصوات.
في خطاب تنصيبه في 30 يونيو (حزيران)، وعد مرسي بأنه «في مصر الجديدة سيكون الرئيس موظفا، خادما للشعب». لكن الوصف الأكثر دقة كان بأن يقول خادما للدولة العميقة. بعد أيام قليلة على تولي الرئيس الجديد مهامه، نقل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو الطغمة العسكرية التي حكمت مصر منذ إطاحة مبارك، معظم صلاحيات الرئيس إلى الجيش. وجاء هذا عقب مرسوم من المجلس العسكري، وهو من المؤسسات الباقية من عهد مبارك، بحل البرلمان الذي يهيمن عليه الإخوان وغيرهم من الأحزاب الإسلامية. وفي اليوم الأول في منصبه، لم يكن مرسي أكثر من رئيس صوري، والوجه المعلن لديمقراطية أفرغت من مضمونها بالفعل.
حاول مرسي بقوة انتزاع الصلاحيات التي اقتطعت من منصبه. وفي تجاهل لأمر المحكمة الدستورية العليا، أمر بعودة البرلمان الذي سبق حله والذي يهيمن عليه الإسلاميون. بل وفي خطوة أكثر جرأة، أقدم على إقالة كبار قادة الجيش، بمن في ذلك وزير الدفاع القوي. وعين مرسي رجله الخاص مكانه، عبد الفتاح السيسي، الجنرال الذي وبخ أحمد سيف خلال اعتقاله في 2011.
لكن مرسي أفرط بشكل سيئ في استغلال صلاحياته آنذاك. في أكتوبر (تشرين الأول) 2012، حاول توسيع صلاحياته الرئاسية بمرسوم رئاسي، وهي خطوة أزعجت كلا من الدولة العميقة والمعارضة العلمانية، التي بدأت بالفعل مخاوفها تزداد من زحف الأسلمة. تراجع مرسي سريعا عن بعض بنود مرسومه المثيرة للجدل، لكن الضرر كان وقع بالفعل، ففي موجة جديدة من الاحتجاجات التي عمت مصر، أدين الرئيس لمحاولة أن يصبح «فرعونا» أو «آية الله» جديدا.
وهنا كانت الثغرة التي كانت تنتظرها الدولة العميقة على ما يبدو، لإعادة الشقاق التقليدي بين الإسلاميين وخصومهم العلمانيين. كان المجلس العسكري يعتبر الإسلاميين – وجماعة الإخوان المسلمين تحديدا – أكبر تهديد على الدولة العلمانية الحديثة، ونصبوا أنفسهم بشكل طبيعي حائط صد ضدهم. انهارت هذه الاستراتيجية خلال أيام أوج الثورة، حيث اتخذ الإسلاميون والتقدميون على السواء موقفا مناهضا لقادة الجيش، لكن أحمد سيف كان قد رأى كيف يمكن إحياء هذه الاستراتيجية بسهولة. في اجتماع لنشطاء حقوق الإنسان نظمته منظمة العفو الدولية قبل عام، عندما كانت مصر لا تزال خاضعة لسيطرة المجلس العسكري، عبر الحضور الواحد تلو الآخر عن مخاوفهم من احتمالية انتصار انتخابي للإسلاميين. وكما يتذكر سكوت لونغ، أحد الناشطين الذين حضروا الاجتماع، في مدونته الشخصية، ضرب أحمد، الذي يتحدث بصوت ناعم عادة منضدة الاجتماع بيده. قال: «لن أقبل أن تقول لي الحكومة الأميركية أو منظمة العفو أو أي جهة أن أتسامح مع «الديكتاتورية العسكرية» لأتجنب سيطرة الإسلاميين على السلطة. لن أقبل بمثل تلك الخيارات الزائفة».
الآن، وقد بات مرسي رئيسا متوسعا في صلاحياته، فإن «الخيار الزائف» أصبح واضحا وضوح الشمس.
قالت ليلى: «كان واضحا جدا أن الدولة العميقة تقوم أولا بمنع أي شيء يحاول مرسي القيام به، ومن ثم لا يتم إنجاز أي شيء. (هو رئيس فاشل). لكن (ثانيا)، تغذية المخاوف منه. كان من السهل القيام بهذا بسبب البروباغندا المعادية لـ(الإخوان) المسلمين – (هم إرهابيون) – وهي البروباغندا التي عمرها 50 عاما»، وكانت لهذه البروباغندا بعض الأسانيد على الأقل على أرض الواقع: في التسعينات شكلت فصائل من الإخوان المسلمين تحالفات مع جماعات إرهابية فعلا.
وبحلول ربيع 2011، كانت مصر قد تحولت سريعا إلى بلد مستقطب بين أنصار الإخوان وتقريبا كل من عداهم. وعلى العكس من هذا، فإن كثيرا من الشباب نفسه الذين نزلوا إلى الشوارع في 2011 للمطالبة بالديمقراطية يطالبون الآن بعزل مرسي. بل لقد تطلعوا إلى واحد من مؤسسات الدولة القادرة على تنفيذ هذا: الجيش.
لم تكن هذه ببساطة قضية فقدان للذاكرة الوطنية. من الجوانب الأكثر إثارة للفضول في المجتمع المصري، أنه يكن احتراما طويل الأمد لجيشه، وهو تقليد مغروس في التلاميذ المصريين منذ دراستهم الابتدائية. ونتيجة لهذا، فحتى خلال عهد مبارك، كان كثير من المصريين يعتبرون الجيش كمؤسسة شيئا مختلفا عن الديكتاتورية الفاسدة التي يؤيدها. وبغض النظر عن أن الجيش كان في حقيقة الأمر مستفيدا، حيث امتلك الجيش المصري شركات بناء، وشركات هندسة، بل حتى مصنعا للمعكرونة فإن ما تذكره كثير ممن نزلوا إلى الشوارع في المظاهرات المناهضة لمرسي في 2013، هو أن الجيش كان له دور رئيسي في إطاحة مبارك أخيرا قبل عامين. وإذا كان حماة الدولة قد تحركوا لإطاحة ديكتاتور من قبل، فلمَ لا يتدخلون لإطاحة رئيس آخر في طريقه لأن يصبح ديكتاتورا؟
قالت ليلى: «بإمكانك أن ترى ما الذي كان يوشك أن يحدث. نعم، مرسي كان كارثة، كان يجب أن يرحل، لكن استدعاء الجيش كان هو الأسوأ. لكن بالنسبة لكثير من الناس الذين أعرفهم، وحتى الناس الذين نزلوا لميدان التحرير، كان هذا ما أرادوه».
في 30 يونيو (حزيران) 2013، في الذكرى الأولى لتنصيب مصري، اندلعت مظاهرات ضخمة في أنحاء مصر، حيث طالب المتظاهرون بإسقاط مرسي. قوبلت هذه المظاهرات بمظاهرات مضادة نظمها أنصار مرسي من الإخوان. لكن بين هذين الفصيلين الكبيرين، كانت هناك مجموعة صغيرة من المتظاهرين تطالب بطريق ثالث. شملت هذه المجموعة ليلى سويف وابنتها، منى.
تقول بابتسامة يغلفها حزن: «تجمعنا في زاوية ضيقة قرب التحرير وهتفنا، (لا مرسي ولا الجيش). ومن كانوا يمرون بجانبنا كانوا يسددون إلينا نظرات مشوشة، كما لو كنا مجانين، وأثق بأننا كنا نبدو مجانين بهذه الطريقة».
في ذلك المنعطف الخطير خرج وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي. في الأول من يوليو (تموز) أعطى السيسي إنذارا للرجل الذي عينه، حيث منح مرسي 48 ساعة «للاستجابة لمطالب الشعب»، وإما سيتدخل الجيش لاستعادة النظام. وقد رفض الرئيس هذا الانذار، مشيرا إلى أنه رئيس الدولة المنتخب. قالت ليلى: «ارتكب مرسي خطأين كبيرين. أولا ظن أن الجيش لن يتحرك ضده من دون موافقة الأميركيين. ولم يدرك أن الجيش لم يعد يهتم بالأميركيين. ثانيا، أنه وثق بالسيسي».
تنفيذا لما قاله، قام السيسي بعزل الحكومة في 3 يوليو (تموز). كما وألغى الدستور، وتم اعتقال مرسي وغيره من قادة الإخوان المسلمين، كما أغلقت 4 قنوات تلفزيونية. وفي غضون أيام تم إعلان تشكيل حكومة انتقالية مؤقتة، تكونت من ضباط سابقين بالجيش وشخصيات من عهد مبارك.
وفي شوارع مصر وضح وجه النظام الجديد تماما. في الأيام التي أعقبت سيطرة السيسي على السلطة، اندلعت اشتباكات بين أنصاره وأنصار الرئيس المعزول وتحولت إلى عنف متزايد، فيما أوضح الجيش والشرطة تماما إلى أي جانب ينحازون. في 8 يوليو أطلقت قوات الأمن النار على أنصار مرسي المتجمهرين في وسط القاهرة، فقتلت ما لا يقل عن 51. مهد هذا الساحة لما هو أسوأ بكثير. في ظهيرة 14 أغسطس (آب)، تحركت قوات الأمن باتجاه ميدان رابعة العدوية بالقاهرة بأوامر بطرد عدة آلاف من المتظاهرين من أنصار مرسي الذين كانوا يخيمون هنا طوال الشهر الماضي. ووفقا لبعض التقديرات، قتل ما لا يقل عن 800. وربما أكثر من 1000 متظاهر. وفي تقليد سيئ لثورة 2011 نزل المئات إلى شوارع القاهرة في الأيام التالية للإشادة بما قام به الجيش.
وبالنسبة إلى ليلى، كان هناك مؤشر آخر، وشخصي بصورة أكبر، على أن النظام الجديد مختلف عما سبقه.
كان نجل ليلى، علاء معروفا بأنه تعرض للاعتقال من قبل كل الحكومة المصرية التي سبقت سيطرة السيسي على السلطة: حكومات مبارك، والمجلس العسكري ومرسي. في 2005، قضى 45 يوما في السجن لانضمامه إلى المظاهرات المنادية بمزيد من الاستقلال للقضاء. وخلال إدارة المجلس العسكري، قضى شهرين رهن الاعتقال لـ«التحريض على العنف». في عهد مرسي كان حاله أفضل، لا لشيء إلا أن القضاة، المتبقين من عهد مبارك، كانوا يمقتون الرئيس الجديد، وتم إلغاء الاتهام الصادر بحقه في مارس (آذار) 2013: «التحريض على العنف»، فيما أدت إدانته بالحرق العمدي لمعاقبته بالسجن عاما مع إيقاف التنفيذ.
وبالنظر إلى هذا السجل، ربما كان الأمر مجرد مسألة وقت قبل أن يتم اعتقال علاء على يد النظام الجديد. حدث هذا في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) 2013، عندما تم اعتقاله على خلفية اتهامات بالتحريض على العنف، والاحتجاج على قانون يمنع التظاهر كان قد تم تفعليه قبل بضعة أيام فقط. وبعيدا عن الكوميديا السوداء في هذا الحكم، ففي ظل الحكم الجديد، سارت الأمور بشكل مختلف تماما مع نجل ليلى، مقارنة بما كان يحدث في الماضي.
مجد إبراهيم.. من سوريا
من أكثر المظاهر المحيرة للحرب الأهلية السورية العدد الرائع من اتفاقات وقف إطلاق النار أو التحالفات المؤقتة التي تم التوصل إليها في كثير من الأحيان بين كثير من الجماعات المسلحة والنظام، أو حتى مع مجرد قائد عسكري محلي. بعض هذه الاتفاقات لا يمكن أن يخطر ببال أحد – إسلاميون متشددون يتعاونون مع عصابة من الشبيحة العلويين على سبيل المثال – وهم يشكلون لغزا فظيعا لكل من يحاول أن يتابع ساحة القتال، لأن ذلك يعني أنه ليس بالضرورة أن يكون أي طرف فعلا كما يبدو، وأن الموت يمكن أن يأتي من أي مكان. لكن هذا النمط من الاتفاقات السرية ساهم كذلك في تجنيب حي الواعر تكتيكات الأرض المحروقة التي كان ينفذها نظام الأسد في أماكن أخرى من حمص، لأنه في أي وقت، فإن بعض جماعات المعارضة الكثيرة التي تنتشر بالحي، كانت من الدهاء لأن تعقد اتفاقات سرية مع النظام.
انتهى هذا النمط في بداية مايو 2011 في خطأ فادح، كان الجيش الحر قد عاد إلى حي باب عمر المدمر، وهناك تعرضوا للحصار والقتل. توجه أولئك الذين نجحوا في الإفلات من حصار النظام إلى الواعر وفرضوا سيطرة شبه كاملة على الحي. وبالتأكيد سرعان ما بدأت مدفعية الجيش السوري النظامي تدك ضاحية مجدي. وفي حين لم يكن القصف بمستوى ما حدث في باب عمر أو الخالدية، فقد كان كافيا لأن تبقى عائلة إبراهيم في شقتها بالطابق الرابع في محاولة لالتماس الأمان.
أوضح مجد: «لا تعرف أبدا ماذا تفعل. هل من الأفضل أن تكون هنا أم تبحث عن الملاذ في البيت الآمن (في دمشق)؟ وهل الوضع أكثر أمنا هناك؟ وما مدى الخطورة إذا حاولنا الذهاب إلى هناك؟».
ومن الأسباب الغريبة كما تبدو، التي دفعت آل إبراهيم للبقاء في حمص، رغم تدهور الوضع، هي أن مجد كان في السنة الأخيرة بالجامعة. ولم يكن إصرارهم على إكمال دراسته عائدا إلى قيمة التعليم العالي، بل لأنه بموجب القانون السوري، يتم إعفاء طلبة الجامعة من التجنيد الإلزامي، ومن ثم فما دام واصل مجدي دراسته الجامعية فسيكون بمأمن من الزج به في القتال. وبمجرد أن أنهى امتحاناته بنهاية يوليو (تموز)، قرر والداه أنهما سيقيمان الوضع ويقرران الخطوة التالية.
أدت هذه المغامرة إلى كارثة. في مساء 5 يوليو (تموز) تم خطف مجد وثلاثة من أصدقائه من أحد شوارع حي الواعر، عندما توقفت عربة ستيشن بيضاء ونزل منها 3 من المقاتلين الشباب في صفوف الجيش الحر يحملون بنادق كلاشنيكوف. أمسك المسلحون بمجد واقتادوه معصوب العينين إلى قاعدتهم القريبة.
قال مجد: «ظننتها مزحة في البداية. لكنهم كانوا يعرفون اسمي، وسني، وما أدرسه في الجامعة، أرادوا مني شيئا آخر».
خلال الساعات القليلة التالية أصر خاطفو مجد على أن يعترف بأنه جاسوس للنظام، وكانت محاولاته الدفع ببراءته تقابل بالركلات واللكمات. وأخيرا، أجبر على أن يجثو على ركبتيه، ووضع رجل من الجيش الحر سكينا كبيرة على عنقه، وصوب آخر بندقية كلاشنيكوف إلى رأسه.
قال مجد بصوت ناعم: «حسنا، هذه هي طريقة الإعدام المعتادة. ومن ثم عرفت ما سيحدث لي. أرادوا أن يقتلوني بطريقة بشعة». ومع هذا، فتمهيدا لإعدامه فكر مستجوبه الرئيسي في البحث في هاتف مجد الجوال. ومع كل رقم وكل صورة كان يطلب من مجد أن يكشف أخيرا عن هوية من «يحركه».
استمر صاحب الـ20 عاما في الدفع ببراءته ليتلقى مزيدا من الركلات واللكمات. توقف المستجوب عند صورة مخزنة لواحد من الشباب تحديدا.
سأله: «لماذا لديك صورة هذا الشاب؟» أجاب: «لأنه صديقي المقرب». تحول قائد الجيش الحر ببطء إلى أسيره. «سنتصل به».
غادر القائد الغرفة، وظل مجد لوقت طويل على ركبتيه، والسكين على عنقه والبندقية مصوبة إلى رأسه. وما لم يكن معلوما تماما لمجد هو أن صديقه من أقارب قائد الجيش الحر، وجاء إلى القاعدة ليطمئن زعيم الجماعة المسلحة بأن مجد إبراهيم ليس جاسوسا للنظام. علم مجد بهذا فقط عندما عاد القائد إلى غرفة الاستجواب وأخبره بأنه سيتم إخلاء سبيله.
قال مجد: «إذن ما الذي أنقذ حياتي، إنها تلك الصورة».
خلال العودة بالسيارة إلى الواعر، بدأ القائد بالجيش الحر محاولة طويلة لإقناع مجد بترك دراسته الجامعية وحمل السلاح ضد النظام. قال مجد إنه سيفكر في الأمر.
وعندما وصل إلى المكان، حيث تم اختطافه في وقت سابق من ذلك اليوم، كان والداه وأصدقاؤه في انتظاره. في صباح اليوم التالي، 6 يوليو (تموز)، غادرت أسرة إبراهيم، قاصدة المنزل الذي تخصصه ملاذا لها، ولم تعد أبدا إلى حي الواعر، حيث عاش مجد حياته كلها. كان ذلك عيد مولده الـ21.
المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»