واشنطن: سكوت آندرسن
نواصل لليوم الرابع على التوالي نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، في تحقيق استقصائي مطول لمجلة «نيويورك تايمز» كتبه سكوت آندرسن، وبعدسة باولو بيليغرين، ويركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عامًا، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي، وبزوغ أزمة اللاجئين العالمية، وقدمت المجلة القصة في خمسة أجزاء؛ «الجذور» و«حرب العراق» و«الربيع العربي» و«صعود داعش» و«الهجرة الجماعية».. وتحكي التطورات التي شهدتها المنطقة منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، مرورًا بالحروب الطائفية ثم اندلاع ثورات الربيع العربي وصعود التنظيمات الإرهابية في المنطقة. وما بين السطور تمنح قصة آندرسن المؤلفة من أكثر من 40 ألف كلمة على مدار 18 شهرًا من العمل الصحافي الميداني الاستقصائي القارئ إحساسًا عميقًا بالكارثة، وكيف تكشفت أماراتها من خلال عيون ستة أشخاص من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق. وفي حلقة اليوم يركز آندرسن على الخراب والكارثة التي حلت في ليبيا ومصر بعد سقوط نظامي العقيد الراحل معمر القذافي، وكذلك الرئيس الأسبق حسني مبارك، الذي رفض مغادرة بلاده، وآثر المحاكمة.
نشرت مجلة «نيويورك تايمز» عددًا ملحميًا يحكي قصة ما وصفته بـ«الكارثة التي كسرت العالم العربي» منذ غزو العراق قبل 13 عامًا، ثم ثورات الربيع العربي، وظهور «داعش»، وأخيرا أزمة النازحين العالمية.
وقالت المجلة في مقدمة عددها «الاستثنائي» الذي استغرق إنجازه من قبل المؤلف آندرسن والمصور بيلغرين عامًا ونصف العام، إن «جغرافية الكارثة واسعة وأسبابها متعددة ونتائجها الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم مألوفة لنا جميعًا». ويصاحب قصة آندرسن 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال الـ14 عاما الماضية.
ويتحدث المؤلف آندرسن اليوم عن الأوضاع في ليبيا من خلال حالة الناشط مجدي المنغوش، وهو من مدينة مصراتة، التي أدت في النهاية إلى تفجر الثورة التي أطاحت بالقذافي في نهاية الأمر، ويعود المؤلف آندرسن بقلمه للحديث مرة أخرى عن عائلة الناشطة المصرية الحقوقية ليلى سويف، وهي من أسرة أكاديمية؛ فهي الابنة الوسطى للدكتور مصطفى سويف أستاذ علم النفس بجامعة القاهرة، والدكتورة فاطمة موسى أستاذة اللغة الإنجليزية وآدابها بجامعة القاهرة، من خلال تسليط الضوء على أولادها، عبر باكورة اهتمام الأولاد بالعمل السياسي، فيقول: «خلال تلك الفترة المضطربة، بدأ أبناء ليلى سويف وأحمد سيف، الثلاثة الذين لم يكونوا قد أبدوا من قبل اهتمامًا بالعمل كناشطين، في الاهتمام بالشأن السياسي. وظهرت أولى بوادر هذا التطور على الابن، علاء عبد الفتاح، المدون المصري الرائد، وحدث ذلك عندما رافق ليلى في مظاهرة في مايو (أيار) 2005».
وعن ذلك الوقت، قالت ليلى: «أصبح حينها مهتمًا للغاية بصحافة المواطن، لذا فإنه في خضم جميع الحراك بالشوارع بخصوص الدستور وعزم مبارك الترشح مجددًا للرئاسة، بدأ في النزول إلى الشوارع لتغطية المظاهرات – ليس للمشاركة بها، وإنما لكتابة تقارير صحافية عنها فحسب».
إلا أن المظاهرات التي وقعت في 25 مايو كانت مختلفة تمامًا، حيث أعدت مجموعة من «البلطجية» الذين استعانت بهم الحكومة كمينًا، وسرعان ما هاجموا المتظاهرين واعتدوا عليهم بالضرب باستخدام الأيدي وعصي خشبية. وعلى ما يبدو، تنبه البلطجية المستأجرون للشخصية الشهيرة المشاركة بقلب المظاهرة، وعليه سرعان ما تجمعوا حول ليلى تحديدًا.
وعن ذلك، قالت: «حسنًا، كان هذا أمرًا جديدًا أن يقدموا عليّ كسيدة في منتصف العمر. وعندما رأى ابني هذا المنظر، قفز باتجاهي في محاولة لمساعدتي». وتعرض علاء للضرب هو الآخر. وأضافت ليلى: «تعرضت بعض أصابع قدمه للكسر، لذا توجهنا إلى المستشفى، ولم نكتشف سوى لاحقًا أننا كنا من المحظوظين، ذلك أنه بعد رحيلنا شرع البلطجية في جذب ملابس النساء وتعريتهن وضربهن. وقد كرروا هذا الأمر كثيرًا بعد ذلك، لكن كانت البداية في هذه المظاهرة، ومن هنا بدأت مشاركة علاء في المظاهرات». وتضيف سويف: «في وقت لاحق، بدأت بناتي في المشاركة – وقد انجذبت منى إلى تيار الاستقلال بين القضاة، ثم انضمت سناء مع اندلاع الثورة – أما علاء، فقد بدأت مشاركته عام 2005».
بوجه عام، تبدو ليلى سويف سيدة قوية غير عاطفية، ولو كانت تحمل بداخلها أي فخر – أو في ضوء ما حدث لاحقًا، ندم – إزاء تحول أبنائها لناشطين سياسيين، فإنها لم تفصح عنه. وقد قالت: «لم أحاول قط تثبيطهم. وحتى لو كانت الرغبة في ذلك قد خالجتني – وقد حدث هذا ربما بعض الأحيان – فإنني لم أقدم على ذلك. هذا أمر لا جدوى من ورائه، وهم على أية حال لن ينصتوا لي. لذا، مضيت في النضال فحسب».
في تلك الفترة تقريبًا، انضم مجدي المنغوش إلى مجموعة من الأشخاص المتجمعين فوق أحد الأرصفة داخل مدينته (مصراتة)، لمتابعة مشهد مذهل، فعلى امتداد شارع طرابلس، أحد الطرق الرئيسة بالمدينة، عكف فريق من البلدية على إزالة الملصقات التي تحمل صورة معمر القذافي، والتي كانت معلقة على جميع أعمدة الإنارة.
كانت تلك محاولة من قبل حاكم ليبيا المستبد لرسم صورة أكثر لينًا ورفقًا لحكومته. ورغم أن الحملة ظاهريًا كانت موجهة إلى الشعب الليبي، فإن هدفها حقيقة الأمر كان الاستهلاك الغربي.
المعروف أنه خلال الأيام السابقة مباشرة لغزو العراق، دار حديث داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس جورج دبليو بوش حول أنه بمجرد التخلص من صدام حسين، فإن القذافي المثير للمشكلات سيكون التالي. وبمجرد أن بدأ غزو العراق في مارس 2003، سارع الديكتاتور الليبي لمحاولة تحسين العلاقات مع الأميركيين. وعرض تسوية لمسألة دور بلاده في حادث تفجير طائرة «بان أميركان» الرحلة 103 فوق لوكيربي باسكوتلندا عام 1988 – من دون الإقرار صراحة بالتورط فيها – وافقت الحكومة الليبية بمقتضاها على دفع 2.7 مليار دولار لأسر الضحايا الـ270. كما شرع القذافي في هدوء في تفكيك البرنامج الليبي الناشئ لإنتاج أسلحة كيماوية وبيولوجية ونووية. وفي هدوء أيضًا، بدأ عملاء الاستخبارات الليبية التشارك مع نظرائهم الأميركيين في ملفات تخص عملاء لتنظيم القاعدة مشتبهًا فيهم ومتطرفين آخرين بالمنطقة. على الصعيد الداخلي، كان الهدف من وراء هذه التحركات خلق صورة وهمية على الأقل بإضفاء صبغة سياسية ليبرالية على البلاد. وفي هذا الإطار، جاءت خطوة إزالة الآلاف من الصور والملصقات التي تحمل صورة «القائد» بمختلف أرجاء البلاد.
بحلول عام 2006، كانت الولايات المتحدة قد استعادت كامل علاقاتها الدبلوماسية بحكومته. ورغم أن ذلك جاء على الصعيد الرسمي كاستجابة لتخلي ليبيا عن برنامجها لتصنيع أسلحة غير تقليدية، ما شكل عاملاً مساهمًا بالتأكيد، فإنه بالنظر إلى المستنقع الذي سقطت فيه واشنطن داخل العراق، لم يعد لديها استعداد لشن أي مغامرات كبرى جديد ضد الحكام الاستبداديين الآخرين بالشرق الأوسط. كما أن ذلك كان يعني أنه أصبح باستطاعة القذافي التخلي عن نهجه الإصلاحي الجديد في هدوء. وعن ذلك، علق مجدي بقوله: «كان الأمر مجرد مسرحية، ذلك أنه لم يحدث أي تغيير حقيقي. وفي غضون شهور قلائل، لا أعتقد أن أحدًا حتى تذكر تلك الإجراءات».
إلا أن ذلك اليوم لم يكن قد جاء بعد عندما وقف عمال البلدية ينزعون صور القذافي في شارع طرابلس بمصراتة. وكان مجدي لا يزال يتابع المشهد عندما ظهر رجل متقدم في العمر خارجًا من أحد الأزقة القريبة.
لفترة طويلة، وقف الرجل ينظر في ذهول إلى المشهد أمامه، ثم جرى نحو واحدة من الصور الملقاة على الأرض وخلع حذائه وانهال به على الصورة، بينما انطلق من فمه وابل من اللعنات.
وحينئذ، تقدم نحوه أحد عمال البلدية وسأله عما يفعل، فأجابه الرجل متسائلاً: «لقد رحل هذا الوغد، أليس كذلك؟ هل وقع انقلاب عسكري؟».
وعندما حاول العامل التحقق منه عما يقوله، سعى الرجل لاختلاق أية ذريعة لتصرفه، مدعيًا أنه كان مريضًا للغاية أخيرًا، وتنتابه نوبات هلاوس، ثم سارع إلى مغادرة المكان.
وعلى الجانب الآخر، فإن خلود الزيدي لم تفر من العراق بمفردها، وإنما عبرت إلى الأردن برفقة شقيقتها التالية لها مباشرة في الترتيب، سحر. وفي غضون شهور قلائل، انضم إليهما بالعاصمة عمان والدهما وشقيقتهما الأكبر، تياميم. أما أشقاء خلود الثلاثة، وكذلك والدتها عزيزة، فقرروا البقاء بالعراق. بحلول صيف 2007، ساور خلود القلق على نحو خاص حيال وسام، شقيقها الأصغر. وعن ذلك، قالت: «كانت الحرب في أوجها حينذاك، وكان يجري التقاط الرجال الشباب من الشوارع. لذا، حرصت على الاتصال بوسام طوال الوقت. وأخبرته أنه لا مستقبل له في العراق، وأن عليه الخروج من البلاد، لكنه كان رقيق المشاعر للغاية وقال إن عليه البقاء لرعاية والدتنا».
وفي مساء أحد أيام سبتمبر (أيلول)، وبينما كان يسير وسام برفقة أحد أصدقائه في واحد من شوارع مدينة الكوت، فتح الشخص النار عليهما وأرداهما قتيلين. وأضافت خلود: «كان في الـ25 من عمره. يقول البعض إنه قتل بسبب ما كنت أقوم به، لكنني آمل ألا يكون ذلك صحيحًا».
وبعد شهور قلائل من مقتل وسام، واجهت خلود محنة جديدة، عندما رفضت أثناء عملها بإحدى المنظمات غير الحكومية طلبًا من رجل أعمال أردني فاسد وصاحب نفوذ. وفي غضون فترة قصيرة، صدر أمر إليها بمغادرة البلاد. ونظرًا إلى أنها كانت في مواجهة موت حتمي إذا ما أجبرت على العودة إلى العراق، لجأت خلود إلى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة طلبًا لتوفير إقامة لها على نحو طارئ في دولة ثالثة.
ومن بين أبعد الاحتمالات كانت الولايات المتحدة. جدير بالذكر أنه عام 2008، كانت القوات الأميركية لا تزال منغمسة بالحرب الأهلية في العراق، وفرضت إدارة بوش قيودًا صارمة (جرى تخفيفها أخيرًا) على عدد العراقيين الذين يُمنحون حق اللجوء، خصوصا أن فتحها الباب أمام جميع من فروا من العراق – كان بالأردن وحده قرابة نصف مليون عراقي مشرد – سيفضح كذب ادعائها بأن الأوضاع تحسنت داخل العراق بعد الحرب. إلا أنه في ضوء الخطر الداهم الذي كان يواجه خلود، ضمتها مفوضية شؤون اللاجئين إلى قائمة برنامجها الخاص الموجه حصريًا إلى أكثر اللاجئين عرضة للخطر، وبالنسبة لهذه الفئة كان هناك مكان خالٍ بالولايات المتحدة. وعليه، استقلت خلود في يوليو (تموز) 2008 الطائرة متجهة إلى سان فرانسيسكو.
وعبر السفر، انتقلت خلود من نقيض لنقيض، فمن شقة متهاوية ومكدسة تشاركت فيها مع والدها وشقيقتيها بعمان إلى شقة أنيقة مؤلفة من غرفة واحدة في سان فرانسيسكو. وبالفعل، سعدت خلود بحياتها الجديدة. وقالت: «سعدت بمجرد التمتع بحرية الذهاب لأي مكان أريده مع عدم الشعور بالخوف من التعرض لمكروه. ولا أعني بذلك الحرب فحسب، فلم يكن من المقبول أن تتنقل امرأة بمفردها – ربما كان ذلك يحدث في بغداد، لكنه لم يكن مقبولاً قط في الكوت. لذا، كنت في بعض الأيام استقل الحافلة أو المترو لساعات. لقد كان ذلك أمرًا لم أكن أتخيل حدوثه يومًا ما قط».
علاوة على ذلك، تحسنت مسيرتها المهنية كثيرًا. في العراق، درست خلود الإنجليزية لأنها كانت توفر على ما يبدو الفرصة الكبرى للحرية في المستقبل بالنسبة لامرأة شابة. أما داخل الولايات المتحدة، بدت الفرص لا حدود لها. وقالت: «بعد عام واحد، حصلت على (غرين كارد)، وأصبح بمقدوري التقدم للحصول على منحة لدراسة أي تخصص أرغبه. وبالفعل، أصبحت طموحة للغاية».
أما مصدر قلقها الوحيد، فكان أسرتها المقسمة ما بين العراق والأردن. وفي الوقت الذي كانت مدركة أن أفراد أسرتها في الكوت لن يغادروها، فإنها سعت بدأب لإنقاذ والدها وشقيقتيها من حالة التيه التي يعيشونها بعمان. وعليه، فإنه في غضون فترة قصيرة من وصولها إلى سان فرانسيسكو، بدأت في إعداد الأوراق اللازمة لضمان انضمامهم إليها.
وبعد ثلاثة شهور، تلقت خلود نبًا سارًا وآخر غير سار، ذلك أنه جرت الموافقة على انتقال شقيقتيها إلى الولايات المتحدة، لكن طلب سفر والدها قوبل بالرفض. وظلت شقيقتاها بالأردن أثناء استئناف القرار، لكن طلب علي الزيدي قوبل بالرفض مجددًا.
بحلول فبراير (شباط) 2009، أي بعد سبعة شهور من وصول خلود سان فرانسيسكو، لم يكن قد طرأ أي تطور على صعيد جهود إعادة توطين والدها بالولايات المتحدة. وعليه، اتخذت خلود قرارًا صعبًا بالعودة إلى الأردن والعمل على قضية والدها من هناك.
وقالت: «لم يكن باستطاعة أصدقائي في سان فرانسيسكو تفهم هذا القرار، وتساءلوا لماذا تعودين إلى هناك بعد أن أصبحت لديك حياة جديدة هنا؟»، وأضافت أنها كانت تجد صعوبة في شرح الأمر لهم، وأوضحت أنه: «كيف يمكنك شرح ثقافتك لهم؟ في العراق، الأسرة هي أهم شيء بالحياة، ولا يمكن أبدًا أن تدير ظهرك لها. وعليه، لم يكن بمقدوري الاستمتاع مع شقيقتي بالحياة في أميركا، ونترك والدنا وراء ظهورنا. لم نكن لنستطيع العيش مع هذا العار أبدًا. لذا، قررت العودة».
في عمان، سعت خلود بدأب لاستغلال أي فرصة سانحة لإخراج والدها من البلاد، وتقدمت بالتماسات لإعادة توطينه ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما كذلك في قرابة 10 دول أوروبية أخرى. إلا أن أيًا من جهودها لم يحالفه التوفيق.
الأسوأ من ذلك، أن خلود ورطت نفسها في حالة من التيه القانوني، ذلك أنه مثلما جرى تحذيرها قبل مغادرة سان فرانسيسكو، فإنه تبعًا لنصوص قانون الهجرة الأميركي لا يحق للاجئين الذين ينتظرون الحصول على «غرين كارد» دائم مغادرة البلاد لأكثر من ستة شهور. لذا، فإنها بعودتها إلى الأردن وإقامتها بها فقدت خلود صفة اللاجئ. وعليه، وجدت خلود نفسها محصورة داخل الأردن بجانب أفراد أسرتها الذين خرجوا من العراق. ولم يكن باستطاعتها العودة لوطنها أو لدولة ثالثة.
بادئ الأمر، أثار الغزو الأميركي للعراق قلق بشار الأسد. كانت علاقة الحاكم السوري المستبد بصدام حسين المتقلب والخطير قد طرأ عليها بعض التحسن في الفترة الأخيرة، ومن المؤكد أن القلق ساوره من يكون التالي على قائمة الأهداف الأميركية. بيد أنه مثلما حدث مع معمر القذافي في ليبيا، بحلول أواخر العقد الأول من القرن الجديد، أصبح لدى الأسد ثقة تامة بأنه ليس هناك ما ينبغي أن يخشاه من جانب الولايات المتحدة.
إلا أن هذه الثقة المتزايدة داخله لم تُترجم إلى حرية أكبر للشعب السوري، فمثلما كان الحال في عهد والده، عاش رعايا الأسد في خوف مستمر من عملاء أجهزة الأمن الداخلي وشبكة من «الشبيحة» العاملين بتوجيه من الحكومة. وبلغ الخوف من جهاز استخباراته حدًا جعل السياسة واحدة من القضايا المحرمة داخل غالبية البيوت السورية.
وعن هذا، يقول الناشط السوري ماجد إبراهيم: «لا أتذكر قط أي حديث لوالدي عن النظام، بخير أو شر. ولا أتذكر إقدام أي من أقاربي أو جيراني على ذلك. عندما كان الأمر يتعلق بالدولة، فإن أقصى انتقاد كان يجرؤ أحد على توجيهه كان يتعلق بضابط المرور على ناصية الشارع. ولم يكن أحدًا ليتحدث مع آخر عن شأن سياسي».
وبسبب نشأته الليبرالية، تعرض الطالب السوري مجد إبراهيم لصدمة؛ بسبب انتقاله إلى مدرسة ثانوية حكومية بعد أن وصل إلى الصف التاسع في مدرسة كاثوليكية. وغالبا ما أبعدته أفكاره العلمانية الحديثة عن زملائه من ذوي التوجه الإسلامي، فقد كانت الهوة بينهما سحيقة. كانت فترة الدراسة الثانوية صعبة على الجميع، وبدأت حياة مجد تأخذ بريقا واضحا بعد التخرج في صيف عام 2010، فبرغم فشله في الحصول على درجات مرتفعة في الاختبارات تؤهله للالتحاق بإحدى كليات القمة مثل الطب والهندسة، فقد بذل كل ما في وسعه للانضمام لجامعة البعث في حمص في خريف ذلك العام لدراسة إدارة الفنادق.
كان الخيار مناسبا لمجد، إذ كان شابا وسيما يتمتع بهيئة جذابة ساعدته في توطيد علاقاته بالكثيرين من حوله في وقت سريع، وحتى بآخرين في العالم الواسع خارج حمص. فبعد حصوله على المؤهل الجامعي، عمل في أحد الفنادق الفاخرة في دمشق: «وكان الفندق بمثابة أفضل الطرق للسير للأمام والاستمتاع بحياة أفضل».
غير أن لبلدة مجد ملمح آخر نادرا ما فكر فيه أثناء سنوات عمره القصيرة، وهو أن حمص في جميع الأحوال كانت تمثل مفترق الطرق بالنسبة إلى سوريا.،فبوقوعها في منتصف الطريق الذي يربط بين أكبر مدينين في سوريا، دمشق وحلب، كانت حمص تمثل الحد الشرقي للطريق السريع الذي يربط بين مناطق سوريا الداخلية ومدنها الساحلية. ومن المهم الإشارة إلى أن حمص كانت مركزا لصناعة تكرير البترول والغاز، ويرجع ذلك لمرور أنابيب النفط والغاز الطبيعي في الصحراء الشرقية من خلال المدينة في طريقها إلى الساحل. وكما أسهم هذا الوضع في رخاء حمص، فقد جعلها أيضا غنيمة في وقت الحرب عندما تقاتل الغرماء للسيطرة عليها.
دخلت ليلى سويف في السياسة المصرية، لكن كان من الصعب عليها لها أن تصدق الحديث عن خطط التظاهر، وما سيحدث في ميدان التحرير في 25 يناير (كانون الثاني) 2011، فقد قال لها أحد النشطاء الصغار إنها: «لن تكون مظاهرة، بل ثورة». تفهمت ليلى حماسة الشاب، فقد حدث قبل ذلك بأيام معدودة أن قامت الثورة في تونس بعد انتحار فتى صغير يعمل بائعا للخضر والفاكهة، ليجبر الرئيس القوي زين العابدين بن علي على التنحي عن السلطة. وعلى امتداد العالم العربي، كانت المظاهرات ليست أكثر من غبار في الهواء، لكن في مصر توقعت ليلى مؤتمرات صحافية واجتماعات لجان تضامنية، وربما بعض التغييرات في الصحف، لكن لم يحدث عصيان مسلح. شجع الوضع ليلى لأن تمزح، فخلال مؤتمر تربوي في اليوم السابق للمظاهرة، وعندما سُئلت إن كانت سوف تحضر المؤتمر في اليوم التالي، أجابت ليلى: «غدا سوف تقوم ثورة، إن انتهت الثورة مبكرا فسوف أحضر».
وفي اليوم التالي ذهبت ليلى إلى ميدان التحرير، وأدركت أن ما تراه يختلف كليا عن الاحتجاجات السابقة المستأنسة. فحتى ذلك الحين كان النشطاء القاهريون يعتبرون أن المظاهرة تعتبر ناجحة لو أنها حظت بمشاركة بضع مئات، في حين أن ميدان التحرير في 25 يناير وجد فيه 15 ألف متظاهر على الأقل، وسمعت ليلى أن آلافا آخرين قد تجمعوا في نقاط مختلفة حول القاهرة، وفي محافظات أخرى. ففي التحرير، شأن باقي المناطق في مختلف المحافظات، تنحت قوات الأمن جانبا بعد أن أصابها الذهول من تصاعد مطالب الجماهير المطالبة بالإصلاح لتتطور إلى إسقاط حسني مبارك نفسه.
استمرت الاحتجاجات على مدار اليومين التاليين، وفي يوم 28 يناير، باتت ليلى على ثقة بأن الثورة أصبحت في متناولهم. وفي صبيحة اليوم نفسه، توجهت ليلى وبعض من أصدقائها إلى ضاحية إمبابة، شمال غربي القاهرة، للانضمام إلى مجموعة تنوي التظاهر في ميدان التحرير، لكنَّ حائطا من الجنود اعترض طريقهم مستخدمًا أدوات مكافحة الشغب. وبعد تفريق المتظاهرين، تعقبهم الجنود إلى أزقة حي إمبابة الضيقة، وأطلقوا الغاز المسيل للدموع. «كان ذلك خطأ غبيا»، وفق ليلي: «فهناك حواري ضيقة يعيش الناس فيها، عمليا، في الشارع، مما جعل الجميع ينزل إلى الشارع لتنشب معركة بين قوات الأمن والسكان، وكان من المستحيل دفع السكان بعيدا عن مناطقهم. وكانوا على وشك الفتك بالجنود وإضرام النار في أقسام الشرطة، وكانوا مستعدين للموت في سبيل ذلك».
استمرت معركة إمبابة حتى بعد ظهيرة ذلك اليوم، وبعدما انفصلت ليلى عن أصدقائها، وقررت ليلى السير باتجاه وسط البلد وحدها. كانت الرحلة مرعبة، فقد كانت الشوارع خالية، وكانت النيران تنبعث وسط الظلام نتيجة للسيارات المحترقة وأقسام الشرطة التي تنبعث منها النيران، وكانت المتاريس تعترض الطرق. كان صوت طلقات الرصاص يرتد من المباني المحيطة، وكانت ليلى تسمع صوت طلقات متفرقة، وأحيانا صوت دفعات متواصلة من مدافع رشاشة. ومع حلول الظلام، وصلت ليلى إلى ميدان رمسيس، أحد أكبر ميادين وشوارع القاهرة.
«وفجأة ظهر طوفان من البشر يهرولون في شارع رمسيس مخترقين حصار الشرطة باتجاه ميدان التحرير. شاهدني شاب صغير بينما كنت أقف هناك، وأتى باتجاهي واحتضنني، فقد رآني من قبل في ميدان التحرير، وقال لي: لقد قلت لك من قبل إنها ستكون ثورة، وكانت هذه هي اللحظة التي أدركت صحة كلامه، وأننا سننتصر»، وفق ليلى.
وعلى مدار الأسبوع التالي، زاد حجم المظاهرات عددا وجرأة، ومعها زادت حدة الحكومة في التعامل معنا، واستبدلت الشرطة الغاز المسيل للدموع برصاص حي، وفي 1 فبراير (شباط) ظهر مبارك على الهواء متعهدا بعدم مغادرة مصر قائلا: «سوف أموت على أرضها»، وفي اليوم التالي كان المشهد الغريب الذي أطلق عليه «معركة الجمل»، عندما صال وجال عدد من بلطجية النظام في الميدان فوق ظهور الجمال والخيل ليهاجموا المعتصمين بميدان التحرير مستخدمين السياط والعصي.
وفي اليوم التالي، هاجمت الشرطة مكتب المحامي أحمد سيف، وألقي القبض عليه مع عشرات آخرين ليجري استجوابهم في مبنى تابع للاستخبارات العسكرية. وعلى مدار يومين، خضع أحمد للاستجواب من قبل مجموعة من الضباط، لكنه تذكر موقفا محددا. ففي صبيحة 5 فبراير (شباط)، مر قائد الاستخبارات العسكرية اللواء عبد الفتاح السيسي لينجز بعض الأعمال، وتصادف أن مر بجوار أحمد وغيره من المعتقلين. وقف السيسي ليلقي محاضرة مرتجلة حذر فيها من مغبة عدم احترام مبارك وقيادة الجيش المصري، مشددا على أن عليهم التوجه مباشرة إلى بيوتهم ونسيان أمر ميدان التحرير نهائيا. وعندما تخلى أحمد عن صمته قائلا إن مبارك فاسد، تغيرت لهجة القائد العسكري في الحال، إذ «غضب واحمر وجهه»، وفق كلمات أحمد التي صرح بها منذ بضع سنوات لصحيفة الغارديان. أضاف أنه «تعامل معنا وكأن الجميع سيتقبل وجهة نظره، وأن أحدا لن يعترض عليه على الملأ، وعندما اعترض أحد على كلامه علنا، فقد أعصابه». وعقب إطلاق سراحه، توقف أحمد أسفل بيته ليبدل ملابسه ويعود مباشرة إلى ميدان التحرير.
كان واضحا حينها أن النظام بدأ يفقد سيطرته على الأوضاع، وانتشرت الأخبار عن وحدات الجيش التي تعصي أوامر إطلاق النار على المتظاهرين، وفي ميدان التحرير التقطت الكاميرات صورا لجنود الجيش يعانقون المتظاهرين ويتبادلون معهم السجائر.
وفي 11 فبراير (شباط)، بات واضحا أن ساعة رحيل حسني مبارك قد حانت، فبعد تنحيه، استقل الرئيس وأسرته الطائرة متوجهين إلى مدينة شرم الشيخ الساحلية على البحر المتوسط. وعند ذيوع الخبر، طار الجميع في مصر فرحا، ولم يكن هناك مكان تجلت فيه الفرحة كما تجلت في ميدان التحرير بالقاهرة.
لكن رغم الفرحة العارمة، كان القلق لا يزال يسيطر على مجموعة صغيرة من المصريين، خاصة عند الإعلان عن أن مجموعة من الضباط الكبار، أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة، سوف تعيين كحكومة مؤقتة لحين موعد الانتخابات. كانت ليلى من ضمن من انتابهم القلق.
فبحسب ليلي: «في الأيام الأخيرة لمبارك، عندما رأينا ما آلت إليه الأمور، أنا وغيري من المستقلين، حاولنا الحديث مع مختلف القوى السياسية».. «استولوا على السلطة، لا تنتظروا الإذن.. استولوا على السلطة الآن قبل أن ينقض الجيش عليها»، وكان رد الجميع: «نعم بالطبع، هذه فكرة جيدة، وسنعقد اجتماعا لنناقش ذلك خلال يومين». هزت ليلى رأسها وضحكت ضحكة لا تخلو من مرارة، وقالت: «ربما كانت الأسئلة أكثر مما يجب، ربما لم ننجح في تنفيذ ذلك في تلك اللحظة، فقد كان الناس في حاجة إلى أن يشعروا بأنهم قد انتصروا، لا أقصدنا نحن، ولا الساسة، لكن تلك الملايين التي خرجت للشارع.. كانوا في حاجة إلى وقت يشعرون فيه بالانتصار»، قالتها ليلى بعد أن تنهدت ثم صمتت لحظة. أضافت: «لا أدري.. كانت هذه فرصتنا لكننا فقدناها». وفي يناير 2011.. كان الليبي مجدي المنغوش يكمل عامه الثالث والأخير في أكاديمية القوات الجوية، وهي مجمع كبير جنوب شرقي مصراتة، وكان يأمل مجدي في الحصول على مؤهل في هندسة الاتصالات. كان جنديا نادرا أن ترى مثله، فكان طيب القلب ويميل جسمه إلى البدانة. كانت الأكاديمية خيارا سهلا أمامه، فقد كانت تسمح له بقضاء العطلات في بيت عائلته، الذي يبعد بضعة أميال عن مكان دراسته، والتنزه برفقه أصدقائه. تابع هو وزملاؤه أخبار الثورة في تونس ومصر في دهشة كبيرة، لكنَّ كلا منهم فهم ما يحدث ببلادة، إذ لم يتوقعوا أن تصل الشرارة إلى ليبيا. وفي مساء السبت 19 فبراير (شباط)، سمع طلاب الأكاديمية العسكرية أصوات بعض الطلقات في المدينة، وفي البداية اعتقدوا أنها مجرد أعاب نارية، لكن الأصوات أخذت في الارتفاع والاقتراب، إلى أن أدرك الطلاب أنها أصوات طلقات حية. حينها صدرت الأوامر لهم بالتجمع، وعلموا أن جميع الإجازات قد ألغيت. وكانت أبراج الحراسة المحيطة بالمجمع، التي عادة ما تكون خالية تماما أو لا يحتلها سوى جندي واحد، أصبحت الآن مليئة بالجنود المسلحين بالبنادق الآلية.
قال مجدي: «حينها فقط عرفنا أن شيئا خطيرا قد حدث، لأن ما شاهدناه كان يختلف عن أي شيء اعتدناه في السابق، لكن لم يخبرنا أحد بحقيقة ما حدث».
تمنى مجدي لو أن أحدا شرح لهم حقيقة ما جرى حتى عند استكمال المحاضرات في اليومين التاليين، لكن المحاضرين المدنيين تغيبوا. وعلى مدار اليوم، جلس مجدي بصحبة أقرب صديق له في الأكاديمية، واسمه جلال الإدريسي، يبلغ عمره 23 عاما من مدينة بني غازي. على النقيض من مجدي الخجول، كان جلال دوما مستعد بنكاته غير المتوقعة أو بمقالبه المحكمة، وكان الاثنان يشتركان في ولعهم بالعلوم وتصميم الآلات، فقد كان جليل يدرس أسلحة الطيران، وعلى مدار العامين والنصف الماضيين كانا لا يفترقان. وكان جلال دوما يقضي إجازته الأسبوعية ببيت عائلة المنقوش بمدينة مصراتة الذي نعم فيه ماجد بحسن الضيافة عندما قضى فيه جزءا من عطلته بصحبة الدريسي عام 2009، ففي المناخ العجيب الذي يعيشان فيه داخل الأكاديمية حيث تنقطع الأخبار، حاول الطلاب الصغار تخمين ما كان يجري بالخارج.
وعلى مدار اليومين التاليين، استمر إطلاق النار خارج المجمع بشكل متقطع، فكان الصوت يقترب أحيانا ثم يتراجع، ويعقب ذلك فترات هدوء.
وفي 22 فبراير (شباط) حانت لحظات الوضوح عندما ظهر العقيد معمر القذافي في عباءة خضراء ليوجه كلمة للشعب، وكانت خطاب «زنقة زنقة» الشهير، الذي نسب فيه الديكتاتور الإضرابات التي عمت البلاد للمؤامرات الأجنبية و«الجرذان»، وتعهد بتطهير ليبيا «شبرا شبرا»، و«بيتا بيتا»، و«غرفة غرفة»، و«حارة حارة»، و«زنقة زنقة».
لم ينتهِ القذافي من كلمته حتى بدأ أطلاق النار في مسراته بشكل كثيف: «بدا كأن قوات الأمن كانت في انتظار الأوامر لتبدأ في التنفيذ»، وفق مجدي، مضيفا: «فبعد الكلمة انتشرت القوات في كل مكان».
استمر الطلاب العسكريون في عزلتهم، حيث كانت تحاصرهم عناصر خارج جدران المجمع بهدف منعهم من معرفة أي أخبار عما يحدث بالخارج، وكان يحاصرهم جنود لا يثقون بهم. ومع مرور الأيام ومع اشتعال القتال المسلح، خرج الطلاب خارج أسوار المكان في محاولة لمعرفة مصيرهم، وكان هذا محور حديث مجدي المنقوش وجلال الدريسي. «كنا نجلس معا لساعات ونتحدث في التفاصيل كافة ونبحث عن مفتاح لكل لغز»، بحسب مجدي، مضيفا كأن نقول: «ماذا يعني هذا؟ هل ذلك يعني كذا؟ لكن أحيانا كنا نبالغ، وكان علينا أن نتوقف، وكنا نتحدث عن كرة القدم مثلا، وأحيانا عن البنات أو عن أي شيء يشغلنا».
انتهت فترة عزلتهم في 25 فبراير (شباط) عندما ظهر جنود من «فرقة الصاعقة 32» فجأة بالقاعدة العسكرية، وأخبروهم بأنهم أتوا من طرابلس «لإنقاذهم»، وأمر جنود الصاعقة الطلاب أن يجمعوا متعلقاتهم سريعا، وأن يتوجهوا إلى نقطة تجمع بأحد أركان المجمع حيث تنتظر الحافلات.
لم يكن عدد الحاويات كافيا، حيث كان عدد الطلاب 580، ولم يكن هناك غير حافلتين فقط. وبعد أن امتلأت الحافلتان عن آخرهما، صعد باقي الطلاب في سيارات جيب وعربات مدرعة تابعة لكتيبة الصاعقة، وسارت القافلة إلى أن حل الليل في رحلة طويلة إلى طرابلس.
وبعد أن أرسل بفرقة «لإنقاذ» الطلاب العسكريين، لم يكن النظام يدري ماذا يفعل بالطلاب الصغار. وقام النظام بنقلهم في حافلات، وأرسل بهم إلى مدرسة ثانوية عسكرية خالية في الضواحي الجنوبية للمدينة؛ حيث أقاموا في ثكنات عسكرية وفصول دراسية ومنعوا من مغادرة المكان أو الاتصال بعائلاتهم، وفرضت عليهم حراسة مسلحة على الأبواب.
المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»