واشنطن: سكوت أندرسون
تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات عن «الأراضي الممزقة – تفكك العالم العربي بعد غزو العراق»، التحقيق الاستقصائي المطول الذي أعدته مجلة «نيويورك تايمز»، وكتبه سكوت أندرسون، وبعدسة باولو بيليغرين.
يركز التحقيق على قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عامًا، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي، وبزوغ أزمة اللاجئين العالمية. قدمت المجلة القصة في خمسة أجزاء، هي: «الجذور»، و«حرب العراق»، و«الربيع العربي»، و«صعود (داعش)»، و«الهجرة الجماعية»، من خلال عدد ملحمي يحتوي على أكثر من 40 ألف كلمة، واستغرق إعداده نحو 18 شهرًا. يحكي قصة ما وصفته بـ«الكارثة التي كسرت العالم العربي» وكيف تكشفت علاماتها من خلال عيون ستة أشخاص من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق.
قالت المجلة في مقدمة عددها «الاستثنائي» إن «جغرافية الكارثة واسعة وأسبابها متعددة، ونتائجها الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم». وتصاحب قصة أندرسون 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال الـ14 عامًا الماضية، تعطي إحساسًا عميقًا بالكارثة. في الحلقة العاشرة اليوم يروي شهود من العراق كيف بدأ «داعش» وانطلقت مركباته تجوب الأراضي وترعب الناس، متمثلاً في وكاظ الحسن الذي عمل مع التنظيم لفترة طويلة.
في بداية يونيو (حزيران) 2015، كان عمله مع «داعش» قد أوشك على الانتهاء، وبدأ وكاظ يعيد تقييم حياته. منذ الانتهاء من التدريب في مجمع لـ«داعش» بالقرب من الموصل خلال الصيف الماضي، قضى نحو ستة أشهر في بلدته الدور، حيث قال إن واجبه الأساسي هناك كان تحصين نقطة تفتيش تابعة لـ«داعش»، ثم تم إرساله لمقاومة عودة الجيش العراقي في مصفاة نفط في بيجي. وفي ظل اشتداد رحى القتال، كان بالطبع أمام وكاظ خيار العودة للتجنيد لدى «داعش»، لكنه قرر العودة إلى العالم المدني.
كان هناك جانب اقتصادي في هذا القرار؛ فمع قرب زوال أيام رخاء «داعش»، بدأ أجر وكاظ يصل إليه متأخرًا. مع ذلك كانت جذور الأمر تتعلق أكثر بالحفاظ على النفس، حيث يبدو أن اتجاه التيار قد بدأ يسير عكس «داعش».
كان هذا جليًا بالنسبة لوكاظ مما دفعه إلى التفكير في الوجهة التالية التي يمكن أن يبدأ فيها من جديد. خلال أبريل (نيسان)، تمكن الجيش العراقي، بدعم من الهجمات الجوية الأميركية، من استعادة تكريت، وبحلول يونيو، كانوا يشددون حصارهم لمحافظة الأنبار، لكن كان من المؤكد أن الحياة ستكون قاتمة في أي من تلك الأماكن بالنسبة إلى مقاتل سابق في «داعش»، حيث سيكون محل ازدراء من رفاقه السابقين، ورجلاً ميتًا في حال عودة الجيش العراقي للسيطرة على الأراضي، أخيرا استقر وكاظ على وجهة مختلفة تمامًا، وهي مدينة كركوك العراقية الواقعة تحت السيطرة الكردية.
مثلما كان الحال في الموصل، وبيجي، وتكريت، انهزم الجيش العراقي، الذي كان مرابطًا في كركوك، وهرب قبل هجوم «داعش» قبل عام. مع ذلك هنا تنتهي التشابهات. انطلق آلاف الجنود البيشمركة إلى كركوك، في محاولة لملء الفراغ الذي خلّفه العراقيون، قبل وصول «داعش» وتمكنوا من إعاقة تقدمهم. ومنذ ذلك الحين، وكركوك تقع فعليًا تحت السيطرة الكردية، لكن المدينة، التي تمثل بوتقة تنصهر فيها الأعراق، كانت أيضًا تحفل باللاجئين السنّة، والشيعة، مما يجعلها مخبأً طبيعيًا لكل من المقاتلين النشطين، والسابقين. رغم أن كركوك تبعد نحو 60 ميلاً فقط عن بيجي، انفصلت المدينتان بخط محصن تحصينًا منيعًا من قوات البيشمركة. ويعني هذا أنه من أجل الوصول إلى هذه المدينة التي تعد ملاذًا، على وكاظ عبور خط «داعش» الفاصل.
في الشهر نفسه الذي قرر وكاظ فيه الانفصال عن تنظيم داعش، حصل مجد في سوريا أخيرًا على درجة البكالوريوس في إدارة الفنادق من جامعة «البعث». كان هذا الإنجاز نعمة ونقمة في آن واحد، لأنه بات عليه التجند في الجيش. قبل الحرب، عادة ما كان يتلقى الطالب خطاب الاستدعاء بعد أربعة، أو خمسة أشهر من تخرجه، لكن في 2015، ومع تناقص عدد أفراد الجيش السوري بسبب الانشقاقات، والإصابات في ساحة المعركة، أصبحت مهلة الاستدعاء أقصر، حيث باتت تتراوح بين شهر وشهرين، بل ووصلت إلى بضعة أسابيع أحيانًا، ولم يصبح هناك أي مساحة للتلاعب في النظام. عندما يصدر إخطار الاستدعاء، قد يأتي الجيش إلى منزلك، ويصطحبك بالقوة. وقال مجد: «وكان هذا ما حدث. لقد كنت أعلم أنه خلال وقت قصير جدًا، سيأتي الجيش من أجلي».
بعد أيام من تخرجه، أعطى والدا مجد لابنهما 3000 دولار وكان هذا المبلغ هو الذي تبقى من مدخرات الأسرة، وطلبا منه مغادرة البلاد. وأوضح مجد قائلاً: «لم يعد الأمر يتعلق بالوطنية، أو الدفاع عن البلد بالنسبة إليهما، لكنه يتعلق ببقائي على قيد الحياة». وأضاف وابتسامة باهتة تعلو شفتيه: «كذلك كنت لأصبح جنديًا فاشلاً».
في 21 يونيو، اصطحب والد مجد ابنه إلى دمشق، وبعد مرور يومين، سافر جوًا إلى تركيا. إلى جانب مبلغ الـ3000 دولار، كان ما يحمله مجد هو ما تسعه حقيبته الصغيرة. وأملاً في البقاء في مكان قريب من موطنه، بدأ مجد البحث عن عمل في تركيا، وعندما لم تثمر هذه المجهودات، لم يكن أمامه أي خيار سوى السير في طريق المهاجرين، الذي كان يسلكه مئات الآلاف من أبناء وطنه خلال ذلك الصيف، وتوجه إلى الغرب نحو ساحل إيجه التركي، حيث يمكنه العبور إلى أوروبا. وفي الطريق التقى مصادفة بصديق قديم من حمص لم يره منذ سنوات طويلة، وهو أمجد الذي كان يسافر مع عمار، أحد اللاجئين القادمين من حمص. وكوّن الثلاثة فريق ترحال، فكانوا يتشاركون القوارب المطاطية القابلة للنفخ، التي مكنته في 27 يوليو (تموز) من العبور من شاطئ للمهربين بالقرب من مدينة بودروم التركية، وهي منتجع سياحي، إلى جزيرة كوس اليونانية التي تقع على بعد عدة أميال.
وهناك كان مجد وأصدقاؤه فريسة للانتظار المؤلم المضني. في ظل ازدحام كوس بعشرات الآلاف من المهاجرين المحتملين، كانت السلطات اليونانية تستغرق فترة قد تصل إلى عشرة أيام لإصدار أوراق تسجيل تسمح لهم باستكمال السفر. في ذلك الصيف، لم يكن هناك ترحاب يُذكر على طريق الهجرة عبر أوروبا الشرقية، حيث هددت كثير من الحكومات بإغلاقه كليًا.
وفي الجزء الآخر وتحديدًا في 18 يونيو 2015، اليوم الأول من رمضان، ودع وكاظ رفاقه في «داعش»، وانطلق عبر خط «داعش» ليعود إلى الحياة المدنية. للوصول إلى كركوك، التي تقع على بعد 60 ميلاً فقط شمال شرقي بيجي، كان على وكاظ أن يتوجه أولاً نحو الغرب عبر الأراضي العراقية والسورية التي يسيطر عليها «داعش»، ثم إلى الشمال نحو تركيا، قبل أن يعود إلى الأرض التي يسيطر عليها الأكراد في العراق، وهي دائرة شبه كاملة تبلغ نحو 500 ميل. وكانت أكبر عقبة محتملة على هذا الطريق المعروف هي الجبهة التركية المسلحة تسليحًا جيدًا.
منذ ازدياد نفوذ «داعش» في شرق سوريا في بداية عام 2014، تم تداول اتهامات بأن نجاحهم اعتمد على تهاون تركيا في ضبط حدودها عمدًا، بحيث تسمح للمقاتلين القادمين من مختلف أنحاء العالم بالمرور عبرها جيئة، وذهابًا. وجاء هذا الاتهام صريحًا على لسان الحكومة الروسية في نهاية 2015. في الوقت الذي تنفي فيه إدارة رجب طيب إردوغان بشدة تلك التهمة، أو التي تدعم الأدلة الرواية الروسية. وتم إلقاء القبض على 11 من أصل 12 مقاتلاً من مقاتلي «داعش»، وأجريت معهم مقابلات من أجل هذا التقرير، وقد زعموا أنهم مروا من تركيا في مرحلة ما من مراحل رحلتهم أثناء خدمتهم في «داعش». وقد أخبرني جميع من أجريت معهم مقابلات بأنهم قد واجهوا جنودًا تركيين، أو أفرادًا من الشرطة التركية، وهم يعبرون الحدود التركية السورية، وتم السماح لهم بالمرور. وكانت هذه بالتأكيد تجربة وكاظ.
وقال وكاظ: «توجه الرجل الذي كان يقودنا، إلى نقطة تفتيش تركية، وتحدث مع الحرس لبضع دقائق. لا أعلم إن كان قد أعطاهم بعض المال، لكننا مررنا بسهولة بعدها».
وهز وكاظ رأسه نافيًا ردًا على السؤال عما إذا كان هناك أي احتمال ألا يكون حرس الحدود الأتراك قد أدركوا انتماء من يتركونهم يعبرون الحدود أم لا. وقال: «بالطبع كانوا يعلمون، لقد كنا جميعًا شبابًا، والرجل الذي كان يصطحبنا من (داعش). وكان يعبر الحدود كثيرًا. لقد كانوا يعرفون».
وانطلاقًا من تركيا مرّ وكاظ من معبر سري آخر إلى إقليم كردستان، وفي بداية يوليو 2015، بعد أسبوعين من تركه لـ«داعش»، كان في كركوك، يستعد لبداية جديدة. وسرعان ما انضم إليه مقاتل سابق آخر من مقاتلي «داعش»، وهو أخوه محمد.
على الأقل في البداية، بدا أن الأخوين حسن قد أحسنا الاختيار. وكان يسكنان في شقة صغيرة في كركوك في حي يفضله المقاتلون السابقون في «داعش»، محاولين الهرب من الأعين، وفي غضون أسبوع، عثر الأخوان على عمل في موقع بناء قريب. في تلك المرحلة، كان حلم وكاظ في المستقبل هو البقاء دون أن يلاحظه أحد في كركوك، وادخار أكبر قدر ممكن من المال، والعودة إلى الوطن عندما تسمح الظروف، وفَتْح متجر صغير خاص به. ورغم تواضع هذا الحلم، وتقيده بشروط، انتهى مساء 7 سبتمبر (أيلول) عندما توقفت سيارة سوداء إلى جوار وكاظ في أحد شوارع كركوك. وفتح الرجل، الذي يجلس في المقعد الأمامي، النافذة، ليتبين أنه رجل شرطة متخفٍّ، طلب من الشاب، وهو يحدق فيه بنظرات ثاقبة حادة، إظهار بطاقة هويته.
في مساء 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، زرتُ مجد إبراهيم في شقته، وهي في علية، وتقع في ضواحي درسدن. وكان مجد يتقاسم الشقة، التي قدمتها له هيئة الرفاه الاجتماعي المحلية، مع صديقه أمجد القادم من حمص، ومع ستة آخرين من طالبي اللجوء، بينما ينتظرون تعامل النظام القانوني الألماني مع الطلبات التي قدموها للحصول على الإقامة. أصبح إعداد الوجبات شاغلاً جديدًا، وتصدى رفيقان في السكن من الهند لمهمة المطبخ. وقال أمجد: «كان الطعام الذي يعدانه أفضل كثيرًا من طعامنا. كانا يعطيانا قائمة بالأشياء التي يجب شراؤها، ونحن نذهب إلى السوق لنشتريها، ويقومان هما بالطهي».
سافر الأصدقاء السوريون من اليونان على طريق المهاجرين المارّ عبر أوروبا الشرقية، ووصلوا إلى جنوب ألمانيا في منتصف أغسطس (آب). وكان مجد يعتزم استكمال الرحلة وحده إلى السويد، فقد سمع بأن الحصول على اللجوء هناك أسهل، لكن ذهبت تلك الخطط أدراج الرياح بعد طرد الشرطة للأصدقاء من قطار متجه نحو الشمال. بعد التنقل بين منشآت إيواء المهاجرين، تم اصطحابهم إلى درسدن في منتصف سبتمبر.
أن يجد لاجئون من حمص أنفسهم في درسدن لهو أمر يمثل تناقضًا، وإشكالاً صريحًا، فقد كانت المدينة، التي تشتهر بأنها دمرت بسبب قصف قوات الحلفاء لها خلال الحرب العالمية الثانية أيضًا مركزًا لحركة مناهضة للهجرة تزداد قوة، وازدادت انتشارًا في أنحاء ألمانيا على مدى العام الماضي. وكان المواطنون اليمينيون ينظمون مظاهرات حاشدة في المدينة كل ليلة اثنين. وعندما زرتُ مجد، كان قد مرّ أسبوع واحد فقط على هجمات باريس الإرهابية، التي راح ضحيتها 130، وكان الغضب من المهاجرين، خصوصًا القادمين من البلدان المسلمة، قد وصل إلى ذروته.
وأخبرني مجد: «كانت هناك بعض الحوادث هنا خلال الأسبوع الماضي. لا يذهب الكثيرون إلى وسط المدينة إطلاقًا الآن». من المؤكد أنهم لن يفعلوا ذلك مساء الاثنين عندما تشتعل الخطابات المناهضة للهجرة في ميدان «ثياتر بلاتز» في درسدن منذ السابعة.
كان يتحدث مجد كثيرًا عن نيته للعودة إلى سوريا، وهي ما فسَّرَت قليلاً عدم إظهار وجهه في الرسم الموضَّح هنا له. مساء ذلك اليوم سألته عما إذا كان يستطيع تصور موعد عودته، فكر طويلاً وقال: «على الأقل بعد عشر سنوات من الآن». وأضاف قائلاً: «هناك مثل شائع عندنا في سوريا يقول إن الدم يجلب الدم، والآن سيريد الجميع الانتقام لما حدث لهم طوال السنوات الماضية، لذا سيستمر الأمر، والدماء ستجلب المزيد من الدماء. لا أعتقد أن الأمر سينتهي إلا حين يموت كل شخص حمل السلاح في هذه الحرب. حتى في ظل وتيرة القتل المتسارعة، سوف يستغرق الأمر عشر سنوات على الأقل».
كنت مع مجد اليوم التالي مصادفة عندما وجد خطابًا بانتظاره عند عودته إلى شقته المشتركة. لقد كان من المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين، يخطر مجد بالانتهاء من التحقق من خلفيته، وبأنه لم يتم العثور على أي مشكلة تتعلق به، وكانت هذه هي آخر عقبة في طريق طلب الإقامة، مما جعله متيقنًا من أنه سيتم السماح له بالإقامة في ألمانيا خلال الثلاثة أعوام المقبلة. ونحى مجد الخطاب جانبًا، واتجه نحو إحدى النوافذ، وجلس محدقًا في الشارع لفترة طويلة.
بنهاية عام 2015، توصلت خلود إلى خطة يائسة. لم تسفر السنوات، التي قضتها في تقديم طلبات إعادة التوطين، عن أي شيء، لذا لم تر أي مستقبل لأسرتها في الأردن. وكانت تتابع طوال فصلي الصيف والخريف قصة مئات الآلاف من المهاجرين المستقبليين المتجهين إلى أوروبا من تركيا، أو من ليبيا، وهي نقطة أخطر، على متن قوارب مهلهلة قابلة للنفخ. مع ذلك في ديسمبر (كانون الأول)، تغيرت القصة سريعًا، حيث شددت الحكومات الأوروبية القيود المفروضة على المهاجرين، ومع حلول فصل الشتاء، أصبح المرور عبر البحر أكثر خطورة. وكما أوضحت خلود لوالدها وشقيقتيها، إذا أرادوا تغيير وضعهم، فعليهم التحرك فورًا.
ونظرًا لخطورة الحالة الصحية لعلي الزيدي، فلن يستطيع تحمل الرحلة الشاقة، لذا اتخذوا قرارًا ببقاء سحر معه في عمان، بينما تذهب خلود، وتياميم إلى أوروبا. في 4 ديسمبر، اتجهتا إلى إسطنبول على متن طائرة، ومن هناك اتخذتا طريق المهاجرين، الذي بات معروفًا الآن بطول ساحل إزمير التركي. بعد الترتيب لدفع 2000 يورو لمهرِّب للحصول على أماكن على متن قارب، انتظرت الشقيقتان. وأخيرًا حان وقت الرحيل، ليلة 11 ديسمبر. وقضيتا ساعة ونصف الساعة في سيارة تسير بطول الساحل. وتسللتا خلود وتياميم إلى الشاطئ تحت جنح الظلام، واستقلتا قاربًا مطاطيًا شديد الاكتظاظ، حيث وجدت خلود أن عددهم 30 راكبًا، بدلا من ثمانية أو عشرة ركاب، وهو العدد المحدد الذي يتسع له القارب. وانطلقتا نحو جزيرة ساموس اليونانية في رحلة استغرقت ثلاث ساعات. وكان القارب المنهك يسير ببطء على الماء، حتى إن محركه تعطل مرتين حين ضربته الأمواج، لكن الخطر الأكبر ظهر حين أوشكتا على الوصول بأمان. في ليلة مقمرة ضبابية، أخطأ قائد القارب في حساب مدى اقترابه من شاطئ ساموس، واصطدم بالقارب ببروز صخري، وسرعان ما بدأ الهواء يغادر أحد الأجزاء المطاطية المملوءة بالهواء. وبينما كانت خلود تستعد للحاق بالركاب الآخرين، الذين قفزوا في المياه تاركين القارب الغارق، ولحسن الحظ كانوا جميعًا يرتدون سترات النجاة، فكرت في إلقاء نظرة على تياميم. ووجدت شقيقتها الكبرى جالسة بلا حراك يملأها الخوف، الذي جمد أوصالها، ومنعها من الحركة.
وتتذكر خلود: «أخذت أصرخ عليها لتقفز، فقد كانت الأمواج عالية جدًا، وكانت ستسحقنا في الصخور، لكنها لم تستطع الحركة. رأيت أنها ستموت، لكني فكرت أننا بعدما وصلنا إلى هذه النقطة البعيدة معًا، يجب أن نتقاسم المصير نفسه».
وصعدت خلود إلى شقيقتها، وأمسكت بها، وبطريقة ما تمكنت من إنقاذها، وإنقاذ نفسها من القارب الغارق المصطدم بالصخر. وفي تلك اللحظة ضربتهما موجة أخرى، أدت إلى إصابة تياميم في رجلها، لكنهما كانا قد وصلتا إلى الأرض على الأقل. في الظلام، ساعدت خلود أختها، التي باتت تعرج، لتصعد تلاً للحاق بباقي المهاجرين الباحثين عن مأوى.
أصبح الأسبوعان التاليان لحظات متعاقبة من السفر، والانتظار، والتوتر بالنسبة إلى الشقيقتين العراقيتين، مما كان بالنسبة إليهما درسًا في اللامبالاة العنيدة، وطيبة الغرباء التي تغير الحياة. بعد التسجيل لدى السلطات اليونانية في ساموس، تم السماح للشقيقتين بركوب «معدية» إلى بر اليونان، وأثينا، حيث وفر لهما صديق أحد أصدقائهما المأوى. في ظل تغير الوضع باستمرار على حدود أوروبا الشرقية، بشكل ليس في صالح آلاف المهاجرين المتدفقين باتجاه الشمال، استكملت الشقيقتان الرحلة سريعًا. في 22 ديسمبر، عبرت خلود وتياميم بالحافلة، والقطار، والسير على الأقدام، خمسة حدود أوروبية لتصلا أخيرًا إلى جنوب ألمانيا.
وهناك، بدا أن الحظ قد نفد منهما، حيث تم إلقاء القبض عليهما بعد عبور الحدود الألمانية، وتم احتجازهما حتى حل الظلام، ثم إعادتهما إلى النمسا، وتلقّتا تعليمات بالتوجه إلى مركز لإيواء اللاجئين في كلاغنفورت. كان هذا المخيم مكتظًا، ولم يتم السماح لهما بالدخول. وفي ظل عدم وجود أي مكان آخر يتوجهان إليه، تكومتا إلى جانب بعضهما البعض أمام أبواب المخيم، قبل أن تبدأ السماء تمطر ثلوجًا.
جاء خلاصهما عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، فبعدما كتبت خلود على «فيسبوك» عن وضعها، تحركت مجموعة دولية من النشطاء، وبحثت عن شخص في كلاغنفورت يستطيع مساعدة الشقيقتين. وسرعان ما وصلت النجدة إليهما من أحد أعضاء البرلمان في المنطقة، حيث اصطحب خلود وتياميم إلى مقهى ليحصلا على الطعام والدفء. في المقهى، بعث الرجل السياسي رسالة عاجلة يطلب فيها مساعدة أسرة محلية يمكنها إيواء الشقيقتين مؤقتًا. وفي غضون ساعة، تلقى ثمانية عروض. ومن المقهى، تم اصطحاب الشقيقتين إلى منزل إليزابيث وإيريك إديلسبرنر.
وكتبت خلود في رسالة بالبريد الإلكتروني إلى صديق في إنجلترا في اليوم التالي: «اليوم هو أول يوم أشعر فيه بالراحة، والاسترخاء. هذه الأسرة لطيفة جدًا، فقد منحونا غرفة خاصة بنا، ولديهم كلب ظريف أحبه».
في ديسمبر، تم إلقاء القبض على وكاظ حسن، واحتجازه في قسم شرطة صغير على أطراف قرية تبعد نحو 10 أميال من كركوك، وذلك للاشتباه في ضلوعه في أعمال إرهابية. ومع نحو 40 آخرين من المشتبه في كونهم إرهابيين، قضى وكاظ، البالغ من العمر 21 عامًا، كل ساعات صحوه تقريبًا جاثيًا على ركبتيه في حجرة صغيرة، كريهة الرائحة، في السجن السرّي الذي يديره، الأسايش، أي أمن البيشمركة. وفي المرات النادرة التي كان يتم إخراجه فيها من تلك الحجرة المشتركة، كان مكبلاً بالأصفاد، ومعصوب العينين. بعد ثلاثة أشهر من القبض عليه في شوارع كركوك، لا يزال غير معروف مكانه.
بعد القبض عليه، اعترف وكاظ سريعًا بأنه كان مقاتلاً لدى تنظيم داعش، وصرح بتفاصيل الفترة التي قضاها معه، ومنها ست عمليات إعدام نفذها في الموصل. ومن المستحيل معرفة ما إذا كان قد تم الحصول على هذا الاعتراف من خلال التعذيب، فخلال محادثة معي في السجن، نفى وكاظ تعرُّضه للإساءة، أو الأذى من محققي الأمن بأي شكل من الأشكال، لكن حتى السجناء الذين تعرضوا للتعذيب يقولون ذلك حين يكون معتقلوهم موجودين إلى جانبهم. وعلى مدار المقابلتين المطولتين، اللتين أجريتهما معه، كان الشاب أحيانًا يناقض نفسه، ربما لمحاولته التكهن بما يريد أن يسمعه سائله، ومعتقله. مع ذلك بدا بعض الصدق في كلماته، ولعل من أسباب ذلك شعوره بتأنيب الضمير، فقد قال لي: «لقد قمتُ بأمور سيئة. أنا بحاجة للاعتراف بها أمام الله».
بعد القبض عليه بفترة قصيرة، وشى وكاظ بأخيه محمد. واستغرقت قوات الأمن (الأسايش) شهرًا لتعقب شقيقه الأكبر حسن، وتم إلقاء القبض عليه، واحتجازه في سجن آخر قريب من كركوك. ولم يكن هناك أي اتصال بين الأخوين منذ إلقاء القبض عليهما، لكن وكاظ يأمل أن يتحدث أخوه بصدق وصراحة عن كل شيء. وبات هدفه الرئيسي، بحسب ما قال، هو التكفير عن جرائمه بمساعدة السلطات في معرفة رفاقه السابقين الأحياء في تنظيم داعش. وقال: «لو أتيحت لي فرصة القيام بذلك مرة أخرى، لم أكن لانضم لـ(داعش). لقد رأيت الأفعال الشريرة التي كانوا يقومون بها، وأعلم الآن أنهم لم يكونوا مسلمين حقيقيين».
رغم هذا التغير في شخصيته، يرى الشاب ذو الواحد والعشرين ربيعًا مستقبله بوضوح، حيث يقول: «لا أرى أي أوهام أمام ناظري، وليس لدي أمل. أعتقد أنني سأقضي بقية حياتي في السجن». وقد كوّن هذا الاعتقاد لأن محققي إقليم كردستان هم من ألقوا القبض عليه، ولأنه لا يزال محتجزًا لدى الأكراد. في الواقع، كان هناك مستقبل أكثر قتامة وظلمة في انتظار وكاظ، مستقبل كشفه لي ضابط بارز في الأسايش في السجن السري.
منذ أحداث يونيو 2014، عندما اختفى الجيش العراقي في كركوك قبل هجوم «داعش»، واندفع الأكراد باتجاه الثغرة، أصبحت المدينة فعليًا تحت السيطرة المشتركة للعراقيين والأكراد. مع ذلك كان هذا التعاون مجرد حبر على الورق إلى حد كبير، فعمليًا لم تكن السلطات الكردية تثق كثيرًا في نظرائها من العراقيين، ولا ترى سببًا وجيهًا للتعاون معهم في الأمور الأمنية. ويتضح هذا الانفصال أكثر ما يتضح في الأمور المتعلقة بـ«داعش».
وأوضح أحد مسؤولي الأسايش قائلاً: «لهذا السبب لم نخبر العراقيين عن الأشخاص المحتجزين هنا. لو كنا فعلنا، لكانوا طالبونا بتسليمهم إليهم، لأنهم ارتكبوا أكثر جرائمهم على أراضي عراقية. وكانوا إما سيقتلون هؤلاء الأشخاص فورًا، أو يطلقون سراح من له اتصالات بقيادات رفيعة المستوى في (داعش) مقابل الحصول على رشوة. لا يمكننا أن نثق في العراقيين إطلاقًا».
في ضوء ذلك، كانت خطة الأسايش هي الإبقاء على وكاظ، واستغلاله لمعرفة هوية مقاتلين آخرين في «داعش» ممن يأسرونهم، حيث من المحتمل أن يكون قد قاتل معهم في الميدان. وبمجرد أن يصبح عديم النفع والقيمة بالنسبة إلى الأسايش، وهذا لن يحدث إلا بعد استعادة الموصل، واستسلام مقاتلي «داعش» هناك، سيتم تسليمه إلى السلطات العراقية، وعندها سيكون مستقبله قصيرًا ومحتومًا.
قال الضابط: «إنه يعتقد أن حياته بمأمن هنا لأنه معنا، فهو يعلم أننا لا نعدم أحدًا، لكن العراق ينفذ الإعدام. سوف يقدمه العراقيون للمثول أمام محاكمهم، ويصدرون حكمًا بإعدامه، ثم سينقلونه إلى سجن في العراق ليتم إعدامه شنقًا». عندما سألته عما إذا كان هناك أي احتمال لنجاته نظرًا لما قدمه وكاظ من مساعدة في الكشف عن مقاتلين آخرين لدى «داعش»، حيث قد يُظهر قاضٍ شفقةً ورحمة في هذه الحالة، سارع المسؤول إلى هز رأسه نافيًا. وعندما سألته عما إذا كان من المحتمل أن يتم عقد صفقة لإنقاذه؟ فكر الضابط قليلا، ثم هز رأسه نافيًا بقوة أكبر. وأضاف قائلاً: «لو كان من القادة البارزين في (داعش) لكان ذلك أمرًا محتملاً، لكنه شخص نكرة، وفقير، لذا لن تكون هناك أي فرصة لنجاته».
المصدر: مجلة «نيويورك تايمز»