واشنطن: سكوت أندرسون
تحقيق استقصائي نتاج 18 شهرًا من العمل الصحافي يسعى لتقديم قراءة واضحة عن الأسباب التي أدت بالمنطقة إلى ما هي عليه اليوم.
هذه القصة على خلاف كل ما نشرناه سابقا.. والحديث لجيك سيلفرستاين، رئيس تحرير مجلة «نيويورك تايمز».. هي أطول بكثير من أي قصص افتتاحية نشرتها مجلة «نيويورك تايمز» من قبل، وهي تحتل مساحة عدد بكامله من حيث الطباعة. وهي نتاج 18 شهرا من العمل الصحافي، وتتلو قصة الكارثة التي حلت بالعالم العربي ومزقته منذ غزو العراق قبل 13 عاما، مما أدى إلى صعود تنظيم داعش الإرهابي وأزمة اللاجئين العالمية.
جغرافية هذه الكارثة متسعة وفسيحة وأسبابها كثيرة ومتعددة، ولكن عواقبها – الحرب وعدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم – مألوفة ومعروفة لنا جميعا. وقصة سكوت أندرسون تمنح القارئ إحساسا عميقا بالكارثة وكيف تكشفت أماراتها من خلال عيون 6 شخصيات من مصر، وليبيا، وسوريا، والعراق، وكردستان العراق. ويصاحب القصة 10 تغطيات مصورة بواسطة المصور باولو بيليغرين، وهي مستمدة من رحلاته المكثفة عبر المنطقة خلال الـ14 عاما الماضية، إلى جانب خبرات الواقع الافتراضي التاريخية والتي تشتمل على مشاهد للقوات القتالية العراقية خلال معركة استعادة مدينة الفلوجة. من غير المسبوق بالنسبة لنا تركيز الكثير من الجهود والانتباه على قصة واحدة، وأن نطلب من قرائنا أن يحذوا حذونا في ذلك. وما كنا لنفعل ذلك إلا إذا كنا مقتنعين تماما أن ما يلي هو واحدة من أكثر التفسيرات الإنسانية وضوحا ورسوخا التي يمكن الاطلاع عليها وقراءتها بشأن الانحرافات التي شهدتها هذه المنطقة.
قبل الانطلاق نحو شمال العراق، غير الدكتور عازار ميرخان ملابسه الإفرنجية وارتدى الملابس التقليدية الفضفاضة التي تميز قوات البيشمركة الكردية: وهي سترة ضيقة وقصيرة من الصوف فوق قميصه، وسروال واسع وفضفاض إلى جانب حزام الوسط الكبير. كما أنه فكر أيضا في جلب بعض الأشياء الأخرى معه. وهي تتضمن خنجرا قتاليا مثبتا بإحكام إلى حزام الوسط، إلى جانب منظار قناصة، وبندقية نصف آلية ملقمة. واستقرت بندقيته الهجومية طراز (إم 4) على مسافة قريبة في المقعد الخلفي، تحسبا لأي تغيرات مفاجئة في الأمور، مع المزيد من أمشاط الرصاص عند دواسة الوقود. وقال الدكتور في لامبالاة: «إنها منطقة سيئة .«
كانت وجهتنا في ذلك اليوم من أيام شهر مايو (أيار) 2015 مكانا من أقسى الأماكن على قلب الدكتور عازار، وهو المكان الذي تطارده ذكراه أينما حل أو ذهب. ففي العام الماضي، قطع مقاتلو «داعش» مساحات واسعة في اتجاه شمال العراق، مكتسحين في طريقهم فرقة من الجيش العراقي كانت تفوقهم عددا بكثير، ثم حولوا انتباههم نحو الأكراد. كان الدكتور عازار يشعر أين سوف يوجه سفاحو «داعش» ضربتهم تحديدا، ويعرف أن عشرات الآلاف من المدنيين العزل يقفون بلا حول ولا قوة في طريقهم، ولكنه لم يكن قادرا على إبلاغ أي شخص بمخاوفه. وفي حالة من اليأس الشديد، كان قد عبأ سيارته بما أمكنه من الأسلحة والذخائر وهرع إلى المكان، حتى وصل إلى بقعة على الطريق علم عندها أنه تأخر ساعات كثيرة؛ قال الدكتور عازار: «كان كل شيء واضحا للغاية. ولكن لم يكن هناك من يريد أن يصغي أو يسمع». وفي ذلك اليوم، كان عائدا إلى المكان الذي خُذل فيه المقاتلون الأكراد الأشداء في شمال العراق وفروا هاربين، وهو نفس المكان الذي فشل الدكتور عازار في الوصول إليه مبكرا في محاولة لتفادي وقوع المأساة الرهيبة.. وهناك، ولشهور تلو الشهور، كان يواصل الرجل قتاله لمجرمي «داعش «.
والدكتور عازار هو طبيب ممارس للمسالك البولية، ولكن من دون شخصية المحارب والقوة النيرانية المرافقة، فإن الطبيب البالغ من العمر 41 عاما لا يزال يحمل هالة الصياد المقاتل الرصين. فهو يتحرك بمشية قافزة تثير الفضول وتصدر القليل من الصوت المسموع، وعند الحديث تراه دائما ما يعبث بذقنه ويطالعك بنظره من خلف نظارته ذات العدسات السميكة، كما لو كان يحدق إليك عبر منظار بندقيته العامرة. ومع أنفه البارز وتسريحة شعره الأسود الأنيق، فإنه أقرب ما يكون شبها بالمطرب الأميركي جوني كاش.
واستكملت الأسلحة الفلسفة الشخصية للطبيب، كما ورد في مشهد من مشاهد أحد أفلامه المفضلة: «الطيب والشرس والقبيح»، عندما فوجئ إيلي والاش بأحدهم يدخل عليه مسلحا وهو في حمامه ويريد قتله. وبدلا من أن يقتل والاش على الفور، شرع الرجل في الحديث ومناقشة والاش عن سابق أفعاله، مما سمح للأخير بقتله أولا.
وقال الدكتور عازار مقتبسا من الفيلم مقولة والاش: «إن كنت قاتلا أحدا.. فاقتله، ولا تتحدث كثيرا»، وأضاف أن الأكراد كذلك الآن. ليس هذا بوقت الكلام، ولكنه وقت إطلاق النار.
والدكتور عازار هو أحد 6 شخصيات نؤرخ لرحلة حياتهم عبر هذه الصفحات. والشخصيات الست قادمون من ست مناطق مختلفة، ومن مدن مختلفة، ومن قبائل مختلفة، ومن عائلات مختلفة، ولكنهم يتقاسمون، إلى جانب الملايين من الناس الآخرين في ومن منطقة الشرق الأوسط، تجارب الانهيار العميق. فلقد تغيرت حياتهم إلى الأبد بسبب الاضطرابات التي بدأت تدور رحاها في عام 2003 مع الغزو الأميركي للعراق، ثم تسارعت وتيرة الأحداث ضمن سلسلة من الثورات والانتفاضات التي أصبحت تعرف باسمها الشهير في الغرب: «الربيع العربي». وهم يستمرون اليوم في مشاهدة عمليات السلب والنهب والتخريب من تنفيذ «داعش»، مع غير ذلك من الهجمات الإرهابية والدول الفاشلة.
وبالنسبة لكل شخصية من هؤلاء الشخصيات الست، تبلورت كل تلك الاضطرابات عبر حادثة وحيدة وفريدة. بالنسبة إلى عازار ميرخان، كانت على الطريق نحو سنجار، عندما شاهد أن أسوأ مخاوفه قد أصبح حقيقة. وبالنسبة إلى ليلى سويف في مصر، كانت عندما انفصل شاب صغير عن كتلة المتظاهرين لاحتضانها، وظنت في تلك اللحظة أن الثورة سوف تنجح. وبالنسبة إلى مجدي المنغوش في ليبيا، كانت عندما كان يسير عبر منطقة فاصلة من الأراضي القاحلة، والتي كانت مفعمة بنشوة غريبة ومفاجئة، فلقد شعر بحريته للمرة الأولى في حياته. وبالنسبة إلى خلود الزيدي في العراق، كانت عندما، مع بضع كلمات سيئة من صديق سابق، تفهمت أخيرا أن كل ما عملت لأجله قد ذهب سدى. وبالنسبة إلى مجد إبراهيم في سوريا، كانت عندما، أثناء مشاهدة المحقق وهو يفتش في هاتفه الجوال بحثا عن هوية قائده، أدرك وقتها أن إعدامه بات قاب قوسين أو أدنى. وبالنسبة إلى وكاظ حسن في العراق، الشاب الصغير غير المهتم تماما بالسياسة أو الدين، كانت في يوم ظهور مقاتلي «داعش» في قريته وعرضوا عليه الاختيار.
وبقدر اليأس الذي أحاط بتلك اللحظات المؤلمة، وبالنسبة لتلك الشخصيات الست، فإنهم يمثلون نقطة عبور نحو مكان لن تكون هناك عودة منه. ومثل تلك التغيرات، بطبيعة الحال – والتي تتضاعف بملايين الأرواح – تسبب تحولات عميقة في أوطانهم، وفي الشرق الأوسط الكبير، وبالتالي في العالم بأسره كأمر حتمي لا مفر منه ولا محيص.
لا يتحرك التاريخ أبدا بطريقة يمكن التنبؤ بها. فهو على الدوام نتاج أحداث تقع بصورة شديدة العشوائية، ويمكن الوقوف على أهمية تلك الحوادث – أو، في كثير من الأحيان، التنازع بشأنها – بعد مرور وقت طويل. ولكن حتى إذا وضعنا في الحسبان الطبيعة المتقلبة للتاريخ، فإن الأحداث ذات الصلة الوثيقة بالربيع العربي لا يمكن أن تكون بعيدة الاحتمال: حادثة انتحار بائع الفاكهة التونسي الفقير حال اعتراضه على مضايقات الحكومة. ففي الوقت الذي استسلم محمد البوعزيزي متأثرا بجراحه يوم الرابع من يناير (كانون الثاني) عام 2011. كان المتظاهرون الذين اندفعوا إلى شوارع تونس يطالبون بالإصلاحات الاقتصادية وباستقالة زين العابدين بن علي الرئيس القوي للبلاد لمدة 23 سنة. وفي الأيام اللاحقة على ذلك، زادت تلك المظاهرات من حيث الحجم والكثافة – ثم اندفعت إلى ما وراء الحدود الوطنية التونسية. وبحلول نهاية يناير، كانت الاحتجاجات المناهضة للحكومة قد اشتعلت في كل من الجزائر ومصر وعمان، والأردن. ولم تكن تلك سوى البداية. وبحلول نوفمبر (تشرين الثاني)، بعد مرور 10 شهور فقط من وفاة البوعزيزي، كان قد أطيح بأربع ديكتاتوريات شرق أوسطية طويلة الأمد في الحكم والسلطة، واهتزت عروش ست حكومات أخرى أو لعلها قد وعدت بالإصلاحات العاجلة، والمظاهرات المناهضة للحكومات – بعض منها سلمي والآخر عنيف – كانت قد انتشرت على شكل قوس في ربوع العالم العربي من موريتانيا وحتى البحرين.
ولكوني كاتبا من ذوي الخبرة الطويلة في شؤون الشرق الأوسط، رحبت في بادئ الأمر بتشنجات الربيع العربي الأولية – وفي واقع الأمر، اعتقدت أنها من الأشياء التي تأخرت كثيرا وطال انتظارها. ففي أوائل السبعينات من القرن الماضي، سافرت عبر مختلف مدن المنطقة كشاب صغير برفقة والدي، وهي الرحلة التي أثارت حواسي ومشاعري نحو الإسلام وعشقي الذي لا ينتهي للصحراء. وكانت منطقة الشرق الأوسط أيضا محل أول غزوة من غزواتي الصحافية عندما، في صيف عام 1983، قفزت على متن الطائرة إلى مدينة بيروت المحاصرة على أمل الحصول على عمل كصحافي حر. وعلى مدى السنوات التالية، التحقت بفصيلة من القوات الخاصة الإسرائيلية التي كانت مكلفة بتنفيذ غارات داخل الضفة الغربية، وتناولت الغداء مع قوات الجنجويد في دارفور، وتقابلت مع عائلات المهاجمين الانتحاريين. وفي نهاية المطاف، توقفت لمدة خمس سنوات عن العمل في الصحافة المطبوعة لاستكمال كتابي حول الأصول التاريخية لـ«الشرق الأوسط» الحديث.
في رحلاتي المتعلقة بالعمل على مدار عقود، لم أجد أي منطقة أخرى قادرة على منافسة العالم العربي في ركودها الكامل. ففي حين حقق معمر القذافي رقما قياسيا لأطول فترة حكم في الشرق الأوسط، بديكتاتوريته الممتدة لـ42 عاما، لم يكن هذا مختلفا كثيرا في مكان آخر؛ فبحلول 2011، كان أي مصري عمره أقل من 41 عاما – ويمثل هذا ما يقرب من 75 في المائة من السكان – لم يعرف في حياته سوى رئيسين، فيما كان السوري في نفس هذه الفئة العمرية قد عاش عمره كله في ظل سيطرة أسرة الأسد، الأب والابن. وإلى جانب الركود السياسي، كانت معظم مراكز ثقل النفوذ الاقتصادي في كثير من البلدان العربية تقع في أيدي أقلية صغيرة، أو عائلات أرستقراطية؛ وبالنسبة لأي شخص دون ذلك، كان الطريق الوحيد للأمن المالي هو عن طريق انتزاع وظيفة في بيروقراطيات القطاع العام المنتفخة ماليا، أو الهيئات الحكومية التي كانت هي نفسها في كثير من الأحيان معالم للمحسوبية والفساد. وفي حين أن القدر الأعظم من الأموال الذي يتدفق على بلدان غنية بالنفط، وذات كثافة سكانية صغيرة، مثل ليبيا أو الكويت، ربما يسمح بدرجة من الرفاهية وفقا لنظرية اقتصاد التساقط، فلم يكن هذا هو الحال في البلدان ذات الكثافة السكانية الأكبر والتي تعاني فقرا في الموارد، مثل مصر أو سوريا، حيث كان الفقر والبطالة على أشدهما وهما مشكلتان – بالنظر إلى الانفجار السكاني المستمر في المنطقة – تزدادان سوءا باستمرار.
سعدت، في الأيام الأولى للربيع العربي، بما كان يتركز عليه غضب الناس. ولطالما كان لدي إحساس بأن من أبرز السمات وأكثرها إضعافا للوطن العربي، كانت ثقافة المظلومية التي لم يكن يتم تعريفها بالشكل الكافي من حيث ما يتطلع إليه الناس، مقارنة بما كانوا يعارضونه. كانوا مناهضين للصهيونية، وللغرب وللإمبريالية. وعلى مدار أجيال، برع حكام المنطقة الديكتاتوريون في تحويل إحباط الجماهير باتجاه هؤلاء «الأعداء» الخارجيين، وبعيدا عن سوء حكمهم. لكن مع الربيع العربي، هذا السيناريو القديم لم يعد صالحا للعمل. على خلاف هذا، وللمرة الأولى بمثل هذا النطاق الواسع، كانت شعوب الشرق الأوسط توجه غضبها مباشرة إلى الأنظمة الحاكمة نفسها.
بعد ذلك اتخذت الأمور منحى خاطئا على نحو مروع. بحلول صيف 2012. انزلق اثنان من البلدان «المحررة» – ليبيا واليمن – إلى حالة من الفوضى والتشرذم إلى فصائل متناحرة، بينما كان النضال ضد حكومة بشار الأسد في سوريا، دخل طور الحرب الأهلية الشنيعة. وفي مصر، وفي الصيف التالي، أطاح الجيش بأول حكومة منتخبة ديمقراطيا، في انقلاب هلل له كثير من نفس أولئك النشطاء الشباب الذين نزلوا إلى الشوارع للمطالبة بالديمقراطية قبل ذلك بعامين. كانت النقطة المضيئة بحق بين بلدان الربيع العربي، المكان الذي منه بدأ، تونس، لكن حتى في هذا البلد كانت الهجمات الإرهابية والسياسيون المتناحرون يشكلان تهديدا مستمرا للحكومة الهشة. وفي خضم الفوضى، وجد فلول تنظيم أسامة بن لادن القديم (القاعدة)، متنفسا جديدا، ونفخوا من جديد في نار الحرب في العراق ثم انبثق منهم بعد ذلك فرع أكثر تشددا وسفكا للدم: الدولة الإسلامية أو «داعش».
لماذا اتخذت الأمور هذا المنحنى؟ لماذا تضل حركة بدأت مع مثل تلك الوعود الكبيرة، الطريق بشكل مروع كما حدث؟
إن الطبيعة العشوائية للربيع العربي تجعل من الصعوبة بمكان تقديم إجابة واحدة. شهد بعض البلدان تحولا جذريا، حتى رغم أن عددا من جيرانهم المباشرين يكاد لم يمسسهم شيء. وكان بعض البلدان ممن واجه أزمة غنيا نسبيا (ليبيا)، فيما كان بعضها الآخر يعاني فقرا مدقعا (اليمن). وانفجرت الأوضاع في بعض بلدان المنطقة التي كانت تحت ديكتاتورية أقل بطشا نسبيا (تونس) كما انفجرت في بعضها الآخر الذي كان يرزح تحت وطأة أشدها وحشية (سوريا). ويظهر نفس مدى التفاوت السياسي والاقتصادي في البلدان التي ظلت مستقرة.
ومع هذا، فهناك نمط واحد لا يظهر، وهو مدهش. ففي حين أن غالبية البلدان الـ22 التي تشكل العالم العربي تعرضت بدرجة ما إلى آثار الربيع العربي، فإن البلدان الستة الأكثر تعرضا لآثاره – مصر، العراق، ليبيا، سوريا، تونس، اليمن – كلها جمهوريات، وليست ملكيات. ومن هؤلاء الستة، هناك 3 بلدان تفسخت تماما لدرجة تبعث الشك في أن تقوم لها قائمة مرة أخرى كدول عاملة – العراق، سوريا، ليبيا – وجميعها أعضاء بتلك القائمة الصغيرة من الدول العربية التي أنشأتها القوى الاستعمارية الغربية في بدايات القرن العشرين. في كل من هذه البلدان الثلاثة، لم يتم الالتفات كثيرا إلى التماسك الوطني، فيما غابت الانقسامات الطائفية عن الاهتمام بصورة أكبر. لا شك بأن نفس هذه الانقسامات الداخلية موجودة في كثير من جمهوريات المنطقة الأخرى، كما هي موجودة في ممالكها، لكن كان يبدو أن سبيل إنكار هذين العاملين اللذين يعملان بصورة مشتركة – غياب الحس الجوهري بالهوية الوطنية مع شكل من الحكم أزاح المبدأ التقليدي المنظم للمجتمع – جعلا العراق وسوريا وليبيا تحديدا في وضع هش عندما وصلت عواصف التغيير.
وحقيقة الأمر أن الأشخاص الست المذكورين بالتفصيل أعلاه، ينتمون جميعا عدا واحد، إلى هذه «الدول المزيفة» وحكاياتهم الفردية تضرب بجذورها في قصة أكبر عن كيف وصلت هذه البلدان إلى ما وصلت إليه. بدأت العملية قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما اقتسم اثنان من الحلفاء المنتصرين، بريطانيا وفرنسا، أراضي الإمبراطورية العثمانية المهزومة فيما بينهما، كغنائم حرب. في ميسوبوتاميا (بلاد ما بين النهرين)، ضم البريطانيون 3 ولايات عثمانية كبرى تتمتع بحكم ذاتي، وسمتها العراق. كان الشيعة العرب يهيمنون على المحافظات الجنوبية، فيما سيطر السنة على الوسط، والأكراد على المناطق الشمالية. وإلى الغرب من العراق، اتخذت القوى الغربية توجها معاكسا، فقسموا أراضي «سوريا الكبرى» إلى أجزاء أصغر، وأسهل في إدارتها. سقطت دويلة سوريا الأصغر تحت الحكم الفرنسي – وهي بالأساس سوريا التي نعرفها اليوم – وكذلك شريط لبنان الساحلي، فيما سيطرت بريطانيا على فلسطين وشرق الأردن، وهي جزء من جنوبي سوريا التي صارت في النهاية إلى إسرائيل والأردن. أما إيطاليا، التي دخلت اللعبة بشكل متأخر قليلا، في 1934. فضمت المناطق الثلاث القديمة من شمال أفريقيا التي استولت عليها من العثمانيين في 1912، لتشكل مستعمرة ليبيا.
ولمواصلة الهيمنة على هذه الأراضي المقسمة، تبنت القوى الأوروبية نفس أسلوب فرق تسد، الذي ساعدها بشكل جيد على استعمار أفريقيا جنوب الصحراء. وشمل هذا تمكين أقلية محلية، عرقية أو دينية، ليقوموا بدور مديريهم المحليين، لثقتهم بأن هذه الأقلية لن تتمرد ضد كبرائهم الخارجيين خشية أن تبتلعها الأغلبية من المهمشين.
كان ذلك هو المستوى الأكثر وضوحا من استراتيجية فرق تسد الأوروبية، ومع هذا، فدون التقسيمات الطائفية والإقليمية في هذه «البلدان» يكمن مباشرة نسيج معقد بصورة غير عادية، من القبائل وامتداداتها القبلية، والعشائر، والنظم الاجتماعية القديمة التي ظلت المصدر الرئيسي لهوية السكان وولائهم. وما فعله جيش الولايات المتحدة والمستوطنون البيض مع القبائل الهندية في غزو الغرب الأميركي، هو تماما ما فعله البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون، والذين أظهروا براعة في بث الفرقة والانقسامات فيما بين تلك الجماعات، فكانوا يمنون على فصيل بالسلاح أو الغذاء أو الوظائف الشرفية، في مقابل قتال بعضهم البعض.
والفارق الكبير بالطبع، هو أنه في الغرب الأميركي، بقي المستوطنون فيما دمر النظام القبلي عن بكرة أبيه. في العالم العربي، غادر الأوروبيون في النهاية، لكن بقيت الانقسامات الطائفية والقبلية التي أوقدوا نارها.
وعلى ضوء هذا، فإن انتحار محمد البوعزيزي في 2011 لا يبدو كمحفز للربيع العربي، بقدر ما هو تعبير عن ذروة التوترات والتناقضات التي كانت تفور تحت سطح المجتمع العربي لوقت طويل. وواقع الأمر أن السكان في أنحاء العالم العربي، من غير المرجح إلى حد بعيد أن يشيروا إلى حدث آخر، وقع قبل موت البوعزيزي بـ8 سنوات، باعتباره اللحظة التي بدأت عندها عملية التفسخ: الغزو الأميركي للعراق. بل إن كثيرين يشيرون إلى صورة واحدة جسدت تلك الاضطرابات. كان ذلك مساء 9 أبريل (نيسان) 2003. في ميدان الفردوس بوسط بغداد، عندما تم إسقاط تمثال مرتفع لصدام حسين، بمساعدة رافعة وعربة أميركية مدرعة من طراز إم88.
وبينما يتذكر العالم العربي هذه الصورة باستياء اليوم – كانت رمزية هذه التدخل الغربي الأخير في منطقتهم شيئا لا يمكن الإفلات منه – فإنها أطلقت في وقتها شرارة شيء مختلف تماما. للمرة الأولى في حياتهم، كان ما رآه السوريون والليبيون والعرب الآخرون، مثلهم مثل العراقيين تماما، هو أن وجها كان يبدو من غير الممكن زحزحته، مثل صدام حسين، من الممكن إزاحته، وأن الشلل السياسي والاجتماعي الذي جثم طويلا على عالمهم العربي يمكن كسره فعلا.
لكن لم يكن واضحا بنفس الدرجة أن أولئك الرجال الأقوياء بذلوا بالفعل جهدا كبيرا لتقييد بلادهم، وأنه في غيابهم ستبدأ القوى القديمة للقبلية والطائفية بفرض قيودها الخاصة. بل إن ما هو أقل وضوحا هو كيف لهذه القوى أن تجذب الولايات المتحدة وتصدها في آن معا، مدمرة نفوذها وهيبتها في المنطقة إلى حد أنها قد لا تتعافى من ذلك أبدا.
شاهد رجل واحد على الأقل هذا بوضوح شديد. فعلى مدار عام 2002، مهدت الإدارة الأميركية الأرض للغزو العراقي بأن وجهت أصابع الاتهام لصدام حسين بزعم تبنيه لبرنامج لتطوير أسلحة الدمار الشامل، والربط بينه وبين هجمات 11 سبتمبر (أيلول). وفي أكتوبر (تشرين الأول)، 2002، وقبل أحداث ميدان الفردوس، أجريت مقابلة طويلة مع معمر القذافي وكان من ضمن الأسئلة سؤال عن المستفيد في حال جرى غزو العراق بالفعل، وكان الديكتاتور الليبي يأخذ برهة للتأمل قبل الرد على أسئلتي، بيد أن إجابته على هذا السؤال كانت فورية، إذ قال: «بن لادن». وأضاف: «ليس هناك شك في ذلك، وربما ينتهي الأمر بالعراق بأن تصبح قاعدة لتنظيم القاعدة، لأنه في حال سقوط نظام صدام سوف تعم الفوضى، ولو حدث هذا فسوف ينظر الناس لمواجهة الولايات المتحدة كجهاد».
وفي بداية أبريل (نيسان) 2015، شرعت أنا والمصور باولو بيلغرين في القيام بعدد من الرحلات لمنطقة الشرق الأوسط. وكفريق عمل من المراسلين والمصورين، قمنا بتغطية سلسلة من الصراعات في المنطقة على مدار العشرين عاما الماضية، ونأمل أن تحظى رحلاتنا القادمة بفهم أكبر لما يطلق عليه الربيع العربي والفوضى العارمة التي عمت المنطقة بعد ذلك. ومع استمرار تدهور الأوضاع ما بين عامي 2015 و2016. توسعت رحلاتنا لتشمل الجزر اليونانية التي استقبلت النازحين من جحيم الحرب في العراق وسوريا، ووصلنا للخطوط الأمامية للقتال الدائر في شمال العراق حيث المعارك المستعرة في مواجهة «داعش».
قدمنا نتائج الرحلات التي استمرت قرابة 16 شهرا مقسمة إلى ستة فصول من السرد الشخصي الذي تضمن ربطا بأحداث تاريخية كبرى لإنتاج نص متكامل يعكس حال العالم العربي وقت الثورة.
القصة مقسمة إلى خمسة أجزاء تتطور أحداثها وفق تسلسل تاريخي على لسان أبطالها. فمع تقديم الكثير من هذه الشخصيات، يركز الجزء الأول على ثلاثة عوامل تاريخية ضرورية لفهم الأزمة الحالية وهي: حالة عدم الاستقرار المتأصلة في دول العالم العربي ذات الحدود المصطنعة، والوضع الجدلي الذي وجدت فيه الحكومات العربية الموالية للولايات المتحدة نفسها فيه بعدما أجبرت على تبني سياسات معارضة لإرادة شعوبها، وتورط الولايات المتحدة في تقسيم العراق منذ 25 عاما، وهو الحدث الذي نادرا ما يشار إليه سواء حينها أو الآن، مما يثير التساؤلات عن شرعية الدول العربية المعاصرة. الجزء الثاني مخصص بالكامل للغزو الأميركي للعراق وكيف أنه مهد الطريق لثورات الربيع العربي. وفي الجزء الثالث، يتسارع السرد مع متابعتنا للنتائج المتفجرة لتلك الثورات في مصر وليبيا وسوريا. وفي الجزء الرابع، يؤرخ السرد لظهور تنظيم داعش، والجزء الخامس يتعقب نتائج النزوح الجماعي من المنطقة إلى أن نصل إلى وقتنا الحالي وإلى قلب أكثر مناطق العالم اضطرابا.
حاولت سرد قصة إنسانية مليئة بالأبطال وبريق من الأمل، لكن ما جاء بعد ذلك كان تحذيرا قاتما. فاليوم تسرب عنف الشرق الأوسط من خزانته بعدما نزح مليون سوري وعراقي إلى أوروبا هربا من الحرب الدائرة على أراضيهم، ناهيك عن هجمات دكا، وبنغلادش، وباريس وغيرها. ومع استحضار اسم «داعش» إثر مذبحة سان برناردينو وأوهايو بالولايات المتحدة، أصبحت قضيتا الهجرة والإرهاب مرتبطتين في عقول الكثير من الأميركان، لتشكلا سويا وميضا سياسيا في الطريق المؤدي للانتخابات الرئاسية القادمة. بمعنى آخر، من المناسب هنا أن نقول إن لأزمة العالم العربي جذورها التي تمتد للحرب العالمية الأولى؛ إذ إن الوضع الحالي ما هو إلا أزمة إقليمية نشبت فجأة واتسعت بشكل بعيد عن أي منطق ووصل تأثيرها لجميع بقاع العالم.
المصدر : مجلة « نيويورك تايمز »