المجزوءة الأولى
البدايـــة
البدايـــة
“ياسين” شاب في غمرة فرحته وهو يزف لعروسه الليلة،وينتظره استحقاق قاري بعيد أقل من أربعة أشهر رفقة المنتخب المغربي ، وهي ليست المرة الأولى من نوعها التي يمثل فيها بلاده على المستوى القاري … فهو في الواقع بطل المغرب منذ سنوات،وسبق أن توج باللقب القاري في وزنه ثلاث مرات حتى الآن،غير الألقاب العربية و الدولية… كنت أنظر إليه وهو بجانب عروسه الجميلة، تبدو كالفراشة في “تكشيطتها” البيضاء تلك. لا أدري كيف اجتذبتني الذكريات إلى أغوارها وأنا أنظر إلى العريس”ياسين” يتراقص وسط أصدقائه مزهوا بنفسه في قمة الفرح و السعادة ، غصت في ذاكرتي إلى عمق أكثر من ثلاثين سنة خلت، حيث يتراءى لي “ياسين”وهو طفل صغير لم يكمل ربيعه الخامس بعد… وهي مرحلة إن طلب مني أن أضع لها عنونا، فلن اختار لها غير”الطفولة الصعبة
الطفولة الصعبة
قصة العريس أو بطلنا”ياسين”، نعود نجترها من مرحلة طفولته داخل أسرة ثنائية الأفراد ، فقط، هو و أمه”نجمة”، الأخيرة اجتهدت وتجتهد منذ وفاة زوجها، لتعول ابنهما ” ياسين” وتوفر حاجاته، إلا أن مستوى الأسرة يبقى أقل من المتوسط إن لم نقل متواضعا جدا، بالنظر إلى عجز الأم ـ في كثير من الأحيان ـ تلبية متطلبات الابن الطفولية، من قبيل شراء دراجـة “زرقاء” كتلك التي حصل عليها صديقه”إلياس” نظير نجاحه في امتحانات الصف السادس الابتدائي ،في حين لم يحصل هو على شيء ،وهو الذي نجح في ذات الصف متقدما على”إلياس” هذا بدرجتين اثنتين. من جهتها ، الأم”نجمة” استماتت و عافرت كثيرا لشراء دراجة لابنها”ياسين” لكن محاولاتها باءت بالفشل في كل مرة.
الغريب أنه رغم ما مر وفات عبر السنين، إلا أن الابن”ياسين” ما استطاع أن ينسى تلك الدراجة الزرقاء،وكيف أرغمه الفقر و اليتم لسنتين على استعطاف ابن الجيران ذاك لركوبها أحيانا…
تلك ذكريات ظلت عالقة بذاكرته ولم ينسها أبدا، ولم تنسها الأم أيضا، إذ كانت دائما ما تواجه مواقف و أحداث تذكرها بفشلها في شراء تلك الدراجة اللعينة ، و كيف كانت تتجول بين دروب الأسواق القديمة للعثور على ملابس رخيصة تعمل على تنظيفها وتجفيفها ليلا حتى لا يراه أحد، فتخبئها حتى توهم ابنها ليلة العيد أنها ملابس جديدة ،ابتاعتها له ليلبسها بين أقرانه يوم العيد… ولم تغفل ذاكرتها أيضا يوم ثار”ياسين” في وجهها في عيد ميلاده الحادي عشر قائلا”قلت لكي إني أصبحت كبيرا كفاية وبات من حقي أن أختار ملابسي بنفسي … فما عدت أريد ارتداء هاته البدل بل أريد سراويل”جينز” و أحدية رياضية كالتي يرتديها أقراني”…
بالنسبة للابن،هو يدرك تمام الإدراك أن أمه تبذل قصارى جهدها ،لكنه قال ما قاله في لحظة انفعال عابرة سريعة كوميض البرق ،غير أنه ما من مجال للتراجع أو سحب الكلام الذي خرج من فاهه ، يومها أحست الأم، انه ما عاد بوسعها أن تضحك على عقله الصغير أو بالأحرى تستغل براءته الطفولية ، وبدا لها أنه من الضروري مكاشفته بفقرها وقصر يدها من حينها، وانخراطه في تحمل المسؤولية إلى جانبها…
كان ياسين ،كثيرا ما يمعن النظر في سيارة كبيرة ، تحمل عشرات الأطفال من عمره، يرتدون وزرات موحدة يختلف لونها بين الذكور و الإناث” كانت قد بدأت تتردد على الحي لتقل أصدقاءه من أبناء الجيران باتجاه المدرسة ثم تعيدهم في الأوقات عينها من كل يوم،عدا السبت والأحد. بالمقابل كان على الفتى اليتيم، أن يقطع يوميا، مسافة 600 متر للوصول إلى المدرسة العمومية الأقرب إلى بيته.
وحتى في وقت الفراغ، كان الأصدقاء بعضهم يذهب للأندية الموسيقية و البعض الآخر يذهب لممارسة كرة القدم بأندية مشهورة مقابل رسوم سنوية خيالية، تفوق راتب الأم”نجمة” ل 6أو 7 أشهر مجتمعة. بالمناسبة فالسيدة”نجمة” أم شابة في الأربعينيات من عمرها،تعمل مربية بروض للأطفال،توفى عنها زوجها مذ سنوات، فتجندت لتربية ابنها بمفردها في زمن غاب فيه التضامن و التآزر العائلي لأسباب عديدة ،بعضها ذاتي و آخر موضوعي نظرا للغلاء،وتعدد مغريات الحياة وكذا حب المظاهر والتباهي ، والاهم هو تفكك العلاقات الإنسانية بشكل ملفت للنظر.
ظل الوضع هكذا متأزما لسنوات، لا ينفرج أحيانا إلا مع النتائج الجيدة التي يحصلها “ياسين” في دراسته رغم سطوة الفقر. ويعود ليزداد تأزما في بعض الأحيان عندما يسأل ياسين عن والده وعن سبب وفاته ومتى وكيف ….؟؟؟
أسئلة كانت تتفتق بداخله و تكبر معه عبر السنين. وبدا جليا أن هاته الأسئلة فيها ما يحرج أو ربما يخيف الأم”نجمة” التي كانت تجد صعوبة في الإجابة ،ودائما ما تتعلل بأي سبب للتهرب من الرد ، وفي أفضل الأحوال ،كانت تجيب باقتضاب شديد وكلمات متفرقة يكاد لا يفهم منها أي شيء، وهو ما يولد المزيد من الأسئلة الأخرى بداخل “ياسين” ويثير فضوله أكثر فأكثر ،ولم يمل ياسين من تكرار السؤال تلو السؤال … وواصل إلحاحه لمعرفة حقيقة والده التي بدت قصة يلفها الغموض بالنسبة إليه. ورغم إلحاحه المتواصل ، لم يظفر من أمه سوى ببضع معلومات عن والده الذي توفي عنه، وهو في السنة الخامسة من عمره ،وبعد جهد جهيد أخبرته أنه كان بطلا معروفا وصاحب مواقف إنسانية عظيمة.
وبعد تحرزها على كل الصور التي تخص العائلة لسنوات وضمنها صور زوجها المتوفي ، هاهي تفرج عن صورة واحدة ووحيدة
و الحقيقة، أن ما علمه الولد عن أبيه سره جدا ،وصار مزهوا متفاخرا بأبيه لمدة ليست باليسيرة، لكنه عاد يحاصر والدته بالأسئلة و يطالبها بالمزيد.
المراهقة و بداية اكتشاف الذات / المواهب
استمر الوضع على ما هو عليه إلى أن بدأ”ياسين” يودع مرحلة الطفولة والدخول في مرحلة المراهقة،وبدأت معها تنكشف عقده النفسية الدفينة نتيجة الفقر و اليتم، وخصوصا اليتم إلى جانب الغموض الذي يلف شخصية وحقيقة والده المتوفي إلا ما باحت به له أمه، مما لا يسمن ولا يغني من جوع بالنسبة له.
فخلال المرحلة الإعدادية والثانوية،كثيرا ما كان يتكرر سؤال : أين أبوك؟؟ على مسامعه، تليه أسئلة : كيف توفي والدك ؟ ومتى ؟ وما كان عمل والدك ؟ وغيرها من الاسئلة..
وفي كل تجمع للرفقة و الأصدقاء إلا وكانت مثل هاته الأسئلة تطرح عليه تحديدا. في البداية كانت تطرح اعتباطيا، لكن مع الوقت أصبح طرحها متعمدا أوـ كذلك كان يحس ياسين على الأقل ـ
وشيئا فشيئا أصبحت الأسئلة والموضوع ككل يستفزه، وبمجرد إثارة موضوع الآباء و الأمهات يتوتر و يفقد السيطرة على نفسه، إن لم ينجح في التملص من الإجابة أو تغيير الموضوع ككل…
و ما كاد يبلغ السنة الأولى من السلك الثانوي، حتى صار عدائيا و سريع الانفعال اتجاه أقرانه ومحيطه بشكل عام حيث اختلط وضعه الاجتماعي بدخوله مرحلة المراهقة ، فأنتج فورة سيكولوجية لدى”ياسين” أنهكت قوى الأم كثيرا جدا لأنها كانت بمثابة الأم و الأب في آن واحد ولطالما وقفت مكتوفة الأيدي لا تعرف ما تفعل أمام تغيراته السيكولوجية و الانفعالية ، ولم يسعفها سوى الصبر عليه و اللجوء إلى الله لهدايته و صلاح أحواله…
كل ما ذكرناه” كان مقدرا و مكتوبا على “ياسين” و أمه ،ولا مجال للهروب منه أو تغييره إلا إن شاء الله عز وجل. وإلى ذلك الحين، عاش الابن، ظروفا عصيبة و محزنة، تراكمت و تزاحمت داخل ذاكرته ، فأثمرت شخصية صلبة،صارمة،انفعالية في غالبية الأوقات، قليلة المزاح، ببنية جسدية جيدة تتميز بالطول .. وهو ما ساعده لفرض طبيعة شخصيته على أصدقاءه والحد من التنمر الذي بدأ يستشعره من خلال أسئلتهم “البئيسة” بالمقابل، ما من شك أن الولد مؤدب و مهذب، ينأى بنفسه عن كل شبهة،متواضع ، مهتم بدراسته، حريص كل الحرص على إسعاد والدته، التي كان يعلم علم اليقين أن لاشيء يسعدها أكثر من خبر نجاحه كل سنة . غير أن شخصيته القوية و الجادة جعلت علاقاته محدودة، فلا يتجاوز أصدقاءه عدد أصابع اليد ممن هم يقاسمونه نفس الطباع أو أغلبها. وهو ما يجعل الأم”نجمة” تبقى مرتاحة البال من جانبه، لأنه بعيد كل البعد عن رفاق السوء.
كانت “نجمة” سعيدة بابنها الوحيد رغم الحالة العصبية التي تنتابه في بعض الأحيان،إلا أن كل حركاته وسكناته تؤكد أنه يحب أمه و يحترمها و لا يخرج عن طاعتها أبدا.
ففي مرة من المرات، وهو لم يستكمل بعد ربيعه الثالث عشر بعد ،قدم على أمه يخبرها برغبته في الالتحاق بناد للفنون الرياضية الدفاعية.. كان يمر به خلال مساره ذهابا و إيابا من مدرسته في أحد الدروب الغير بعيدة عن محل سكناه. ودون سابق إنذار أحست حينها الأم و كأن الأرض تدور بها وكل الأشياء تلف من حولها حتى وقعت مغشيا عليها !!! لم تستفق إلا وحفن المياه تلطم وجهها، ولما استعادت وعيها سمعت صوت “ياسين” وكأنه من بعيد يناديها ماما،ماما… وهو يرش وجهها بالمياه في محاولة لإيقاظها.
أمضت “نجمة” بقية اليوم في سريرها، تتجاذبها العديد من الأسئلة ولسان حالها يقول فعلا”ابن الإوز عوام” ،ولكن كيف لها أن تعيش نفس القصة مرتين في حياة واحدة؟؟؟ لا.. لا يمكن أن أغامر بابني هاته المرة ـ تقول نجمة لنفسها ـ
وبالجهة الأخرى، لا يزال الابن مصدوما من وقوع أمه مغمى عليها، ويتسأل مع نفسه، هل لطلبه علاقة بالأمر؟لما وكيف…؟
فضل ياسين الصمت… فهذا الذي حدث جعله مترددا في فتح الموضوع مع أمه من جديد.
استمر صمت الابن، لكنه ليس حلا بالنسة لأم تعلم جيدا أن عدم تكرار ابنها طلب التحاقه بالنادي الرياضي، لا يعني أنه صرف النظر عن رياضته المختارة ، بل كانت جازمة أنه يخطط لشيء ما، و لن يتراجع عن قراره ، خصوصا وأنها لمست فيه روح التحدي و التصميم إلى حد العناد مذ نعومة أظافره. وقد سلمت “نجمة” أنه ورثها لا محالة من أبيه .
ليبقى السؤال الذي أرقها كثيرا : كيف لها أن تثنيه عن رغبته هاته ؟؟ كيف ستقنعه بالإقلاع عن فكرة ممارسة الفنون الدفاعية ؟؟؟
والسؤال الأهم هو ما سبب موقف الأم من رياضة فنون الدفاع؟ والتي على ما يبدو أن لها قصة محزنة أو مخيفة ربما مع هاته الرياضة !
قصة من مخيال البطلة السابقة / الاعلامية وفاء قشبال /
يتبع