كلمة الرئيس الأول لمحكمة النقض خلال المؤتمر الثاني حول
بسم الله الرحمان الرحيم
والحمد لله والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه؛
اسمحوا لي في مستهل هذه الكلمة أن أعبر لكم عن مدى اعتزازي بالمشاركة في هذا المؤتمر الدولي الثاني حول ” الأمن الرقمي والتحديات الجديدة ” ذي المضامين الدستورية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية المتعددة، والذي يحمل أبعادا قانونية وقضائية وتقنية وتنظيمية تثير العديد من الإشكالات والإكراهات وطنيا ودوليا ويقتضي منا الكثير من التبصر والحوار والتعاون من أجل بلورة رؤية استشرافية للمعاملات والعلاقات بين المؤسسات والمقاولات والأفراد تضمن التوازن بين الحقوق والواجبات في ظل مجتمع رقمي آمن.
ولا غرو أن كل سبل النجاح والتوفيق بإذن الله قد تيسرت لهذا اللقاء ذي الراهنية الكبرى المنعقد برمز الانبعاث والتجديد وعاصمة الأصالة والقيم والتقاليد أكادير جوهرة الجنوب وأرض العلم والتجارة والعمل .
فهنيئا لكل من فكر وأعد ونظم هذا الحدث الدولي الهام، وأخص بالشكر الأستاذ الفاضل والمسؤول المقتدر والقاضي الفذ الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف بأكادير المحترم على هذه المبادرة القيمة التي تعكس الرغبة الحادة للأسرة القضائية في المساهمة في بناء المستقبل بكل انفتاح ومسؤولية وضمير من أجل مجتمع الحقوق والحريات والمواطنة والحرية والكرامة والأمن وسيادة القانون.
كما أغتنم هذه المناسبة لأشكر وأشد بحرارة على أيدي كل الشركاء الذين ساهموا في الإعداد والتنظيم وعبروا عن إرادة صادقة من أجل إنجاح هذه التظاهرة وإعطائها المكانة اللائقة بها .
والشكر موصول لكل المتدخلين والحضور كل باسمه وصفته على مشاركتهم القيمة الوازنة التي ستغني بكل يقين أشغال ونتائج هذا اللقاء.
وأقول للجميع هنيئا لكم وجزاكم الله بكل خير.
الحضور الكريم ؛
منذ ليالي التاريخ الأولى والإنسان يبحث عن الأمن بكل أبعاده وتجلياته كفرد وجماعة ومؤسسات ودولة واتحادات جهوية وقارية وعالمية.
أمن دعت إليه الديانات ” فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف”.
أمن سعت إليه الشرائع والقوانين والمواثيق، وأصبح الآن من أكثر المفاهيم والمواضيع تداولا ونقاشا وبحثا وتفصيلا، أمن قانوني وأمن قضائي وأمن روحي، وأمن اقتصادي واجتماعي وأمن ثقافي….
تفريعات كثيرة ومفاهيم متعددة لكنه نفس الهاجس ونفس الهدف، خلق بيئة آمنة للعيش المشترك للإنسانية تنعم فيها بالحقوق وتؤدى فيها الواجبات بكل حرية ومسؤولية وفق ضمانات قانونية وقضائية واضحة دقيقة وناجعة.
لكن للأسف ليس الأمر كذلك دائما في ظل هذا التحولات الاقتصادية والتطورات التكنولوجية والرقمية المتسارعة التي بقدر ما يسرت وقربت الكثير من الخدمات والمعاملات وأحدث ثورة في العلاقات المجتمعية والدولية، إلا أنها في نفس الآن أتاحت للبعض إساءة استخدامها إما جهلا أو إهمالا وتعمدا وبرزت إشكالات تقنية وقانونية وحقوقية معقدة وأفرزت ظواهر اقتصادية واجتماعية وثقافية تحاكمنا جميعا كأفراد ومؤسسات ودول وتفرض علينا سؤالا أساسيا محوريا: كيف السبيل إلى استعادة “الثقة الرقمية وتحقيق مجتمع رقمي آمن” ؟.
الحضور الكريم؛
مفاهيم كثيرة أصبحت تحاصرنا اليوم وتثير الكثير من القلق القانوني والمعرفي وتطالبنا بالكثير من الذكاء: “المدن الذكية”، “الخدمات الذكية”، “المحكمة الذكية”، “القلق الرقمي”، “الوثيقة الرقمية”، “المعاملات الرقمية”، “النقود الرقمية”، “الجرائم الالكترونية”، “الأمن الرقمي”..ألخ، مواضيع متعددة اجتاحت الجميع وطنيا ودوليا بسبب عولمة المفاهيم والقيم وتطور المجال التكنولوجي وخدمات الانترنيت والهواتف الذكية، وأصبحت مؤسسات العدالة بكل مكوناتها مطالبة بإيجاد أجوبة عنها والاستفادة من الفرص التي تتيحها من أجل شفافية أكثر ونجاعة أكبر وعدالة أقرب.
وبكل موضوعية فإن المغرب خطى خطوات جبارة من منطلق موقعه الجيوستراتيجي كنقطة استقطاب تكنولوجية مستندا في ذلك على برامجه التنموية ومشاريعه الإصلاحية الكبرى التي يقودها جلالة الملك دام له النصر والتأييد ذات الأبعاد الوطنية والقارية والإنسانية حيث وضع استراتيجية وطنية لمجتمع المعلومات والاقتصاد الرقمي ذات أولويات محددة تراهن على التحولات الاجتماعية الكبرى وتقديم الخدمات العمومية بنجاعة وشفافية، وتطوير الصناعة التكنولوجية والمعلوماتية، من خلال إجراءات مواكبة تستند على تأهيل وتعزيز الإطار القانوني الوطني والدولي، وتوفير الكفاءات البشرية المؤهلة، ودعم تنمية التجارة الالكترونية، وتشجيع لامادية المعاملات الإلكترونية، ووضع الهياكل التنظيمية الملائمة وإقامة برامج تحسيسية لكل الفاعلين.
والأكيد أنها محاور تتسم بالتكامل والتعقيد والتطور وتتطلب رؤية موحدة وعمل مشترك وتفكير متواصل وانفتاح على جميع التجارب العالمية الرائدة.
وقناعتي كبيرة أن لقاء مثل هذا اليوم سيكون محطة ملائمة للتأمل ولتقييم ما وصلنا إليه من خلاصات ونتائج بكل موضوعية ومهنية ووطنية.
الحضور الكريم؛
إن محكمة النقض بالنظر لموقعها الاعتباري ومركزها القانوني كان لزاما عليها الانخراط في هذه الديناميكية بشكل استباقي وفق مخطط استراتيجي ورؤية مستقبلية واضحة سواء على مستوى حكامتها الإدارية التنظيمية أو على مستوى عملها القضائي بهدف الوصول إلى المحكمة الذكية بخدمات رقمية متعددة متطورة تكرس حق المتقاضي في الولوج والنجاعة والشفافية والقرب.
أكيد أن المقام لا يسع بالتفصيل فيما أنجزناه طيلة السنوات الخمس الماضية، لكن ذلك لا يمنع من التذكير بالتقاضي عن بعد والمداولة الرقمية والمكتبة الالكترونية والقناة التلفزية الرقمية والمكنز الالكتروني والأرشيف الالكتروني والتبليغ الالكتروني وبنك المعطيات القانونية والقضائية وهي كلها أوراش اشتغلنا على مكوناتها التقنية والقانونية والإدارية والتنظيمية وسرنا فيها خطوات جبارة وبذلنا فيها مجهودات كبرى بإمكاناتنا الذاتية ستعود بالنفع العميم على العدالة ببلادنا.
فضلا عن تطوير خدمات موقعنا الالكتروني الذي يتيح للجميع يوميا وبكل يسر وشفافية الوصول إلى المعلومة القضائية دون أي كلفة أو عناء.
كما أن أغلب شراكتنا وأنشطتنا في مجال التعاون الدولي وندواتنا وورشات عملنا تنصب في جزء هام منها على مواضيع التكنولوجيات الحديثة في علاقتها بالقضاء والمحاكم هدفنا من ذلك تأهيل العنصر البشري وتحفيزه للانخراط في هذه المنظومة المتسارعة التي تتطور بشكل كبير يوما بعد يوم.
هذه المجهودات التنظيمية في مجال الحكامة انعكست على قيمة ومحتوى توجهات الاجتهادات القضائية لهذه المؤسسة العتيدة التي أبانت عن انفتاح كبير على وسائل الإثبات الحديثة في مجال المعاملات برؤية مقاصدية حكيمة توازن بين الحقوق والواجبات وبين الضمانات التقنية والضمانات القانونية، كما تعامل قضاتنا الأماجد بصرامة مع كل التجاوزات الإجرامية التي تتم بواسطة التكنولوجيا الحديثة وآليات التواصل المتطورة دون إخلال بمبادىء الشرعية وضمانات المحاكمة العادلة.
والأكيد أن المسار ما زال طويلا وشاقا ويقتضي منا جميعا مقاربة شمولية وكثيرا من الانفتاح والعمل الدؤوب.
الحضور الكريم؛
إن تحقيق الثقة وتكريس الأمن الرقمي سيتطلب منا بالأساس الاهتمام بشكل كبير بالعنصر البشري باعتباره الحلقة الأضعف في مكافحة هذه الآفة وذلك من خلال مضاعفة الأنشطة التحسيسية والتكوينية لإتمام ما تم القيام به بلادنا على الصعيد القانوني والمؤسساتي والتقني في إطار استراتيجية وطنية استباقية تعمل على تأهيل القدرات التقنية والتدبيرية للمسؤولين عن تنظيم وأمن نظم المعلوميات ومهني العدالة من قضاة وكتابة ضبط وخبراء ومحاميين وموثقين وعدول وضابطة قضائية فضلا عن تحسيس كافة الفئات بوسائل مبتكرة متجددة والقيام بتحليل معمق للحوامل الجديدة للجريمة الالكترونية والأزمات الرقمية.
الحضور الكريم؛
يقال أن النظر في شمس العولمة يقتضي منا التحديق في قمر الذات ، واللقاء اليوم فرصة لنا جميعا لحصر مقومات القوة والفرص المتاحة ورصد حجم المخاطر والاكراهات والثغرات من أجل مجتمع آمن وعلاقات محمية وضوابط قانونية وتقنية وتدبيرية تكرس الثقة الرقمية وتصون مستقبل الأجيال القادمة.
فكل دعائي لأشغالكم بالتوفيق والسداد وستجدون دائما في محكمة المغربية السند والدعم لكل المبادرات الجادة المسؤولة وأبوابنا مفتوحة على كل الرؤى والأفكار خدمة للوطن وتكريسا للقيم التي نؤمن بها جميعا قيم الحرية والمساواة والكرامة والعدل و الإنصاف.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته؛